الضمير الجمعي للأمة المسلمة
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال عبدالحي بولعراس في معرض حديثه عن مباحث الفيلسوف ابي الوليد ابن رشد عن الشريعة والفلسفة:· رغم نقض ابن رشد للتصورات الخرافية والاسطورية والنقلية من طريق البرهان: فإننانجد تهافت التهافت سرعان ما يضمحل ويختفي؛ لتبرز من جديد الرؤى الاشعرية، وفتاوى الفقهاء الضيقة الافق، بل ويتحول تهافت التهافت الى مؤسس للضمير الجمعي للامة، والموجه لسلوك عامة الناس، فهو القاعدة الخصبة للتخلف الفكري والسياسي والاقتصادي التي يقمع بها كل مجدد ومحدث للأبنية القيمية والعلاقات الاجتماعية,
فما هي طبيعة وجودنا العقلي الراهن؟
وماهي عوامل واسباب سيطرة البيان على البرهان؟ )1(,
قال ابو عبدالرحمن : الضمير الجمعي للامة أنها مسلمة تدين للامة العربية بالمرجعية قيادة ولغة يُفهم من خلالها دين الله الذي نزل بلغتها,, والضمير الجمعي للامة مؤلف من كيفيتين:
أ-أمة عامية هي الاكثر,, حددت سلوكها من معطيات الشرع المعصوم، والعقل الفطري غير المتكلف,
ب- أمة علمية غير عامية، وهم قسمان:
1- ذوو علم تخصصي في علوم الشريعة، او التاريخ ، او الآداب,, فهم بعقول الخاصة في فنهم ، وبعقول العامة في تدينهم وسلوكهم,, هذا هو الاكثر,, ويتوارى في الظل مُجَّانٌ ضعفت نفوسهم، وزنادقة تقليديون لاقِبَل لهم بالفكر من افراخ المجوسية، واهل الكتاب، وبرابرة الامم ممن اسلم تقية؛ فهم محسوبون على الضمير الجمعي للامة الاسلامية الواحدة,
2- والقسم الثاني: ذوو فكر وفلسفة اضافة الى تخصصاتهم العلمية,, ومنهم الفيلسوف المعياري الممثل للضمير الجمعي للأمة، الملتحم بهمّها التاريخي والديني ومصلحتها الدنيوية كأئمة الفقه- وهم اكثر من اربعة-،وعلماء اصول الفقه، وعلماء العقيدة ابتداء من أئمة علماء الحديث الى ابن حزم الى ابن تيمية,,والمعرفة عند هؤلاء ضرورات العقل، وما احالت ضرورات العقل الى التسليم به من الشرع الثابت تفصيلا واجمالا,, ومادتهم كل ما زخرت به المعرفة البشرية منذ افلاطون وارسطو ومن قبلهما الى كل المستجدات والمتغيرات في عصرهم,
ومنهم الفيلسوف الصناعي، ويشمل المتكلم الذي لم يفرق بين تأملات الفكر ومعطياته بإطلاق، وبين ضرورات الفكر وايجابياته، فجعلوا المعقول بدواتهم الفكرية - وان لم تكن ضرورات عقلية -، وجعلوها ميزانا لدين ربهم خالق العقول,, ومن الفلاسفة الصناعيين كبار من الاذكياء الذين جعلوا المعرفة تاريخية، وسموها علوم الاوائل ممثلة في منطق ارسطو وفلسفة ارسطو وافلاطون وبقية المشائين والعقلانيين والماديين والاشراقيين,وكل من انتسب الى مذهب من هذه المذاهب جعل مذهبه معيار الحق والخير والجمال,
وكل هؤلا ءالفلاسفة الصناعيون يمثلون الضمير الجمعي للامة بمقدار قربهم من ضرورات الفكر، وبمقدار فهمهم لدين ربهم بلغة العرب وقوانين العقل الانساني المشترك,, وهم لايمثلون الضمير الجمعي للامة في حالات عديدة كالتالي:
أ- ان تكون الصناعة الفلسفية اغلوطة طائفية او عرقية للنيل من الامة ذات الضمير الجمعي كفلسفة ابن سينا في الالهيات - لاسيما في رسالة اضحوية، لأنها كتبت لخدمة القرامطة، وبمقدمة نصت علىالارتزاق وبيع الضمير بتزييف العقل، فهذا الفيلسوف الصناعي ليس من الضمير الجمعي للامة في شيء، لان القرامطة نحلة ضد وجودها الديني، وطائفية ضد وجودها الكياني تاريخا ولغة ورقعة,
ب- ان تكون الصناعة الفلسفية عن حسن قصد، ولكنها استسلام لبعض اقوال الاوائل،وحصر للعصمة فيهم كفلسفة ابن رشد,, فهذا يمثل الضمير الجماعي للامة بعلمه المشكور في الفقه، وتقصي منطق وفلسفة ارسطو تلخيصا ، وبسطا ووسطية بين بين,, وهو يمثل الضمير الجماعي للامة بكل ما امدها به من علم دنيوي في الطب وغيره، لان هذه الامة انتقلت ببركة الاسلام من الامية الى الكتابة، ومن العشائرية الى الامة بمقوماتها دولة، وجيشا، وسعة رقعة، وتحصيل معارف,
وهو لا يمثل الضمير الجماعي عندما يكون من فكره ان الحقيقة في ارسطو: منه واليه!!، لان الضمير الجمعي للامة لا يعترف بالعصمة لبشر، ولانه يرى العقل البشري امتدادا لتكميل نقص السابق، وتصحيح اوهامه، وانه في ابداع دائما، وانه غير نهائي في الوصول الى الحقيقة والخير والجمال,, الا بمقدار ما يزكي مصداقيته من خبر وطلب خالق العقول,
وهو لا يمثل الضمير الجمعي اذا تعرض لحقيقة غيبية بتمثيل كيف، او تحديد مقدار، لان العقل في عقيدته -كماهو في الواقع- لايعرف من الغيب الا ماتخلفت الموانع عن امكانه، وما اقتضت البراهين التصديق بتحققه، ولا يعلم من كنهه الا ما يفهم من الخبر الوصفي من قبل من يحتم العقل تصديقه,, والخبر الوصفي تعريف بالصفة وجودا,, والوصف لايقتضي التشبيه والتحديد الكمي إلا ان يكون الوصف الخبري شبَّه وقدر,, فإذا تجاوز العقل الوصف الخبري الى تشبيه او تقدير من عنده لم يكن ذلك تمثيلا للضمير الجمعي، لان ذلك ليس من معارف العقل، ولا يملك تكييفا ولا تحديدا الا بمقدار ما عنده عنه من صور حسية,, فكيف يملك الصورة الحسية عن مغيب!!,
ان الغيب في علم العقل ضرورة وجود وتصور وصف اذا كان الخبر عمن يضطر العقل الى تصديقه,, او كان الوصف من خلال الآثار المشهودة للمغيب,
قال ابو عبدالرحمن: ولست والله أستوعب فرضيته المحالة من سيطرة البيان على البرهان,, ان البرهان أوكد الادلة وأوضحها، فإذا وجد البيان فذلك هو وجود البرهان,, واما البيان اللفظي فما هو الا ايضاح لغوي مبيِّن لما هو حق او باطل,, ولما هو واجب او مستحيل او ممكن,, وليس هذا هو البيان المعتبر,, انما البيان ما كان تعبيرا عما في الفكر من قبل المرسل - بصيغة اسم المفعول- موصلا الى فكر المتلقي، ومبينا له،فلا يكون بيانا فكريا لغويا الا وهو برهان,
ويمشي بلعراس مشية العرضنة في خيلاء مفلسفة، فيقول مستعليا على الضمير الجمعي لأمة عمرها اربعة عشر قرنا ونيفا حافلا بامتداد المعارف والرقعة: ·ان الرؤية الافقية للعلاقات والوجود متمكنة من العقل الجمعي للامة، وهي شاملة للمسائل الفيزيقية والميتافيزيقية, وأما على المستوى الميتافيزيقي فقد تحول الله الى قوة متعالية عن الطبيعة، ومنعزلة عنها، وفاعلة فيها كما تشاء وأنّى تشاء؟!,,, بعد ان قام ابن رشد بإدخاله الى العالم، فالله عند الناس هو محور العالم، ومتعال عليه، وقدرته تتجاوز القوانين الموضوعية مما مهد لفكر الخوارق ان يتمكن في تحليلنا للظواهر,,هذا الفكر الخوارقي الذي لا يؤمن بالضرورة بالاسباب الموضوعية والمباشرة في تفسير الحدث الطبيعي والاجتماعي، وبل يفسره بماهو متعال عن الطبيعة,, وهو تصور يعمق عقلية الانتظار والجبر,, انتظار الحلول الفوقية للمشاكل القائمة، فيتجه الانسان الى التصوف والزهد في الدنيا والدعاء وطلب الاغاثة من السماء )2(,
قال ابو عبدالرحمن: اما التصوف عقيدة فذلك من الفلسفة الصناعية التي لاتمثل الضمير الجمعي ، لان مفهوم الضمير الجمعي مفهوم امة ذات همٍّ تاريخي واحد، وذات دين ولغة واحدة،وذات رؤية طبيعية للعقل البشري، وذات رؤيا دينية حوله)3(,, تفرق بين علمه اللزومي بما هو موجود مغيب موصوف او مشهود اثره ،وعلمه الكيفي الكمي بمقدار ما يخترفه من منافذ الحس، ومن ثم تعرف دور العقل في المعرفة,
ثم مابال هذا البولعراس يكذب علىاهل المواهب من الامة - ودعك من العامة- في دعوى انكارهم القوانين العلمية؟!,, ومن ضمن اهل المواهب الفقهاء، فهل وجد عند فقيه من هؤلاء الفقهاء ترتيب الولد على النكاح والإنبات على المطر والتحصيل على السعي,, إلخ,,إلخ,,مع وجود الموانع,, او عدم ترتيب ذلك عند تخلف الموانع؟!!,, اذن القوانين بإطلاق وجود مقتضٍ، وتخلف مانع,
ان الامة في منتهى البربرية والهمجية والجهل ان كانت لاتعرف اسباب الحوادث المباشرة تأصيلا وتطبيقا، ويكون الله جلّت قدرته منَّ على هذه الامة في ذنب الدنيا ببلعراس يوقظها من غفلتها، إذ كانت لاتعرف الباعث والعلة والسبب والنتيجة,
ان الضمير الجمعي يعلم اثر الاسباب اذا تخلفت الموانع معرفة يضيق عنها جلد هذا المتمعلم,, وعلى ذلك قامت مباحثها الجبارة في الاصول والجدل والتفسير والفلسفة،وقامت شؤونها الادارية، ومنتجاتها الحضارية,, ولكنها لاتقف عند هذا العلم، لانها تؤمن بالحق الذي يكفر به هذا الدعي، وهو ان كل سبب فله مسبب، فتلتمس العلة الكافية من علم وارادة وقدرة وحكمة فاطر السماوات والارض، وخالق هذا البلعراس من ظلمة المهد الى ظلمة اللحد ان لم يرجع الى ربه,, وهو في تربيته منحة ربانية قدرية فيعلم شيئا شيئا بعد ان لم يكن يعلم شيئا,, ثم يعود القهقرى الى ان يُرَدُّ الى ارذل العمر ان لم تخترمه المنية قبل ذلك,
وياليت شعري اية قانون وسبب كاف ينقطع به الذهن في جريان هذه الشمس على نظام رتيب لايتغير؟,, واي قانون حدد لها هذا المقدار عنا بحيث لو دنت منا قليلا لصهرتنا؟!!,
ان الضمير الجمعي يؤمن بكل قانون طبيعي يكتشفه العلم فيكون حسيا وضرورة فكرية,, ولكنه يبحث بعد ذلك عن العلة الكافية,, علة الغائية والعناية وتحقيق القصد في التدبير,
وكل حدث تجاوز قانونه الطبيعي فلا غضاضة في وصفه بالخارق,, وليس خارقا بدعوى الضمير الجمعي للامة ، وانما هو خارق بإجماع من رأى الحدث متجاوزا لقانونه كعصا موسى ، والريح لسليمان، وإبراء الاكمه والابرص لعيسى عليهم السلام، وتجدد العلل مع تجدد العصيان للناموس الشرعي كالايدز،وكثرة الهرج في العالم,
والخارق اذا وجد لايعطل سلوك الامة، ولا يلغي معرفتها بترتب المسببات على الاسباب ، وانما تعطي كل حادث حكمه,
وما يقوم على ايدي الكهّان، والممخرقين وذوي الوسائط الروحية من مجذوبي الصوفية ليس خارقا عند امتنا، وذووه ليسوا من الضمير الجمعي للامة,, بل الضمير الجمعي يعظ ويعاقب بوازع الشرع والعقل,
واورد بولعراس كلمة مقتضبة من كلام الغزالي مجردة من سياقها، لانه لم يرجع الى كتاب الغزالي مباشرة، وانما نقل عن معاصر - وهو غالب هلسا-,, قال بولعراس:·يقول الغزالي في تهافت الفلاسفة: الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا، وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذلك، ولا ذاك هذا، ولا اثبات أحدهما متضمن لإثبات الاخر، ولا نفيه متضمن لنفي الاخر، فليس من ضرورة وجود احدهما وجود الاخر، ولا من ضرورة عدم احدهما عدم الاخر,, مثل الري والشرب والشبع والاكل والاحتراق ولقاء النور والنور وطلوع الشمس والموت وحز الرقبة,, اما عن احتراق القطن:·,,,فاعل الاحتراق خلق السواد في القطن والتفرق في اجزائه، وجعله حرقا او رمادا,, وهو الله تعالى: اما بواسطة الملائكة، او بغير وساطة,,فأما النار فهي جماد، فلا فعل لها , ويعلق الدكتور سليمان دنيا محقق الكتاب:·ومن الطريف ان هذا الرأية الذي عارض به الغزالي رأي الفارابي وابن سينا في السببية قد وجد له انصارا في العصر الحديث ,)4(
قال ابو عبدالرحمن: صنيع بولعراس جمع بين التمعلم والكسل والتعالي، فقد ساق كلام هلسا المقتضب الذي لم يفهم كلام الغزالي، ثم تابعه بولعراس في الاقتضاب والتقليد في عدم الفهم,, ان الغزالي لاينكر ترتب الشبع على الاكل مثلا بعد ان خلق الله الشبع مقترنا بالاكل، وانما انكر جعل هذا الترتيب الذي هو من فعل الله مانعا من خرقه بفعل الله، فقرر مايلي:
1-ان الاكل مسبب للشبع,, لا لأن الاكل موجب لذلك بذاته، بل لان الله جعله سببا,, ولو اراد الله الشبع بغير الاكل لكان، ولو اراد الجوع من الاكل لكان,, انه لاينكر السببية كما نجدها في هذا التساوق، وانما ينكر ان تكون مسببة لذاتها,
2- ان فاعل الاحتراق ليس هو النار، بل الله خلق السواد في القطن: إما بواسطة الملائكة,, وإما بغير واسطة,, وهذا الامر مما اخطأ فيه الغزالي، وتجشمه لغير ضرورة,, ولا محظور ان يقول : ان النار محرقة بالطبع، لانه طبع خلقه الله لها، فيظل الغزالي منسجما مع قوله:· يخلقها الله على التساوق ,, فيكون الله رتب الاثر على التساوق,, يعني ان الاثر ضروري، لان الله جعله ضروريا،وخلق الخاصية في السبب والمسبب,, وكون السبب فاعلا بالطبع لايحتم بإطلاق قوله:· فلا يمكنه - يعني احراق النار- الكف عما هو في طبعه بعد ملاقاته لمحل قابل له ,, بل الصواب: ان هذا لا يمكنه فعلا الا ان يوجد مانع يمنع المقتضي لأن سنة الله لاتتبدل من قبل الخلق، فمن ألقى انسانا في النار فلا يمكن ان يمنع عنه الاحتراق وقد ألقاه بدون موانع تحجب عنه فعل النار,, وبما ان هذا الطبع من خلق الله فالله قادر على تبديل هذا الطبع، لان هذا الطبع ليس حتميا في ذاته بل بفعل الله، الذي جعله حتميا على الخلق,
3-عبّر الغزالي بقوله عن القابل للاحتراق اذا لاقى النار:·والمشاهدة تدل على الحصول عندها، ولا تدل على الحصول بها فأوهم بذلك انه ينكر تأثير الاسباب,, والواقع انه يعلم حصول الموت بحز الرقبة، والاحتراق بالنار,, الا انه لا يجعل السببية والمسببية طبيعة فيهما، بل لان الله جعل هذا مترتبا على هذا,, لا لطبيعة فيهما بل بإرادة الله,, فهو لاينكر ترتب الاثر، وحتميته في العادة، وانما يمنع من التسمية بالسببية والفاعلية،لان الفاعلية لله وحده، ولأن الله يبطل في الخارق الاثر، فلو كان فاعلة ما بطل الاثر، ليصل بذلك الى اثبات معجزة ابراهيم الخليل عليه السلام، إذ لم تحرقه النار,, ولو كانت النار هي الفاعلة لكانت تفعل الاحراق مع ابراهيم,, فخلاف الغزالي لفظي، وهو غير مضطر اليه، بل يقال: النار فاعليتها الاحراق في طبعها، وهذا الطبع والفاعلية خلق الله، فالله قادر على سلب طبيعتها وفاعليتها اذا اراد,
اكرر للمرة الثانية ان الغزالي لاينكر ترتب الاثر على المؤثر في العادة، وانما سماه اقترانا وسمى الاثر خلقا لله امضاه على التساوق )اي الاقتران(,, فأي فرق بين هذا وبين القول: بأن جعل الله الاثر خلقا في المؤثر والمتأثر,, ان الغزالي فرّ من جائز متعين الى جائز غير متعين، ولهذا ظُنَّ انه من منكري الاسباب حقيقة لا لفظا,
قال ابو عبدالرحمن: ليس مذهب الغزالي مذهب هيوم في السببية، لأن هيوم ينكرها قانونا عقليا، والغزالي يثبتها لله وحده، فهو السبب في كل وجود، لانه خالقه,, كما ان الغزالي لم ينكر الاثر متساوقا مع المؤثر لامفعولا له في كل مجرى الحياة الا حالة الخرق للعادة ، فجعله مانعا من التساوق بفعل الله,, وهو خلاف لفظي,
قال ابو عبدالرحمن: وبإيجاز فليس الغرض تصحيح تعبير الغزالي، وانما الغرض نفي ما يترتب على تعبيره من نفي حصول المسببات من اسبابها,, بل هو يثبت حصول الاثر، ويسميه تساوقا، وينفي عنه مسمى السببية التي جعلها لله وحده,
وبعد هذا فلنرجع الى الضمير الجمعي: فالجمهور من العوام، ومن هو في حكم العوام - ممن لم يتعلم علما شرعيا- معتقده ان مسبب الاسباب هو الله سواء اكتشف السبب الطبيعي المباشر ام لم يكتشفه؟!,
والضمير الجمعي من علماء الشريعة ليس على وفاق مع الغزالي في تعبيره، وليس على عقيدة بأن كل عالم معصوم مهدي هداية توفيق، بل مرجعيته الشرع وبدائه العقول,
وما دام بولعراس بهذا الحماس في اثبات الاسباب الطبيعية فحق عليه ان يؤمن بالله ربا خالقا بهذا القانون الفكري الضروري)قانون السببية( لاسيما وهو يرى الاسباب الطبيعية متعاونة غير مستقلة,, وقد قال على سبيل الاستغراب لايمان المؤمنة :· فالله عند الناس هو محور العالم، ومتعال عليه، وقدرته تتجاوز القوانين الموضوعية,, ,, ومعنى هذا ان الله - جل جلاله عند بولعراس ليس بهذه الصفة وذلك هو الكفر الصراح,, وفي مجال التمجيد لابن رشد، لانه قام بإدخال الله في العالم,, فهل بعد هذا العفن من عفن,, وابن رشد على علاّته خير واتقى وأنفع وأزكى وأعلم من صاحب هذا الكفر,
وبعد هذه الجولة مع الغزالي انطلق بولعراس انطلاقة لاتمت الى ماذكره الغزالي بادنى سبب، فقال: ·ان النظرة القائمة على الثنائية، واخراج الوجود من الموجود,, بل وتقزيم هذا الاخير، لتعظيم الاول الذي لايملك قيمة ذاتية، وانما قيمة غيرية,, فالعلم الالهي قياسا)5( الى علم الانسان الذي هو جهل,, وهكذا في كل بقية الصفات,
بل ان النظرة الثنائية اقامت فاصلا بين الجسم والنفس,, بين الدنيا والآخرة,, بين الفكر والعمل ، بين الاجير والمأجور,, بين المواطن والسلطة,, كل هذا دفعنا الى تعذيب الجسم لراحة النفس، وذم الدنيا لتأليه الاخرة، وطلب الغيب هروبا من الشهادة,, وعشنا في الخيال والطوباوية، ونسينا الواقع,, طلبنا السماء وتركنا الارض، فابتزت ثرواتنا!!؟)6(,
ان العلاقة العمودية في رؤية الوجود المتغلغلة والمتمكنة من وجداننا المعاصر ساهم الفقهاء ورجال الدين، والحركات الاسلامية الاخوانية في اخراجها الى حيز الشعور بعدما كانت في مستوى اللاشعور,, ترسخها في الاذهان بعدما تمكنت من السلوك والممارسات، فصرنا مشدودي الاعين الى الاعلى، فالمعرفة هي المعرفة النقلية السماوية الفائضة من العقل الاول، او هي استلهام واشراق,, والسلطة هي حارسة وحامية حمى الامة، والخروج عنها فتنة وكفر، والطبقة الاعلى هي مصدر رزقنا الذي استخلفنا الله فيه,, ولمَ لا يكون المجتمع طبقات في حين الجنة طبقات والنار طبقات؟,
ان التصور السياسي الهرمي علىعلاقة عضوية بالتصور الهرمي للوجود حيث يحتل السلطان في هذه العلاقة مكانة الإله، فيصبح القادر الحكيم الساهر على حل مشاكلنا,, انه املنا ورجاؤنا,, لايحق لنا الخروج عليه، فالثورة فتنة، بل علينا بنصيحته، فالنصيحة واجب ديني,, وان لم يرتدع علينا ان نطلب منه التخلي عن الرئاسة,, اما الثورة فهي شر ·وإمام ظالم خير من ليلة بدون امام كما يذهب الى ذلك ابن حنبل )7(,
قال ابو عبدالرحمن: يراد بالثنائية الاعتراف بمخلوق وخالق، واخر كلامه هذر صحفي وتزوير وتعميم، فهذا القزم النتن - نتن الكفر والكذب - يعلم ان علماء الشريعة يتلقون المعنى الشرعي او يستنبطونه ولا يؤسسونه,, ويعلم ان المعرفة الشرعية هي المعيار في الحكم في المعارف وتوظيفها,, واستحثاث السمع والبصر والفؤاد والعقل في التبدر والاعتبار هو المعيار في ذلك بضرورة العقل وتسليمه بصدق الشرع وعصمته,
والسلطة هي كما ذكر - وأنفه راغم- ما دامت جهة الحماية والتنفيذ لدين خالق العقول، ومنزل الشرائع ، ومعلم الفضائل، والداعي الى تحقيق المصالح,
وكذب هذا الضال المضل، فما جعل الله الطبقة العليا مصدر رزقنا، بل عيّن لنا مصدر الرزق بالكدح والكسب الحلال,, وهو - بحرية سلوكية- تحرر من عبودية ربه شرعا، ولكنه عبدالقهر والاذلال لما يمضيه الله فيه - على الرغم منه- بقدره الكوني العادل في حياته الدنيا المحدودة، وفي حياة الابد ان مات على كفره فكان في مثوى الكافرين مع من لايُقضى عليهم فيموتوا ، ولا يخفف عنهم من عذابها,
وكذب في دعواه ان السلطان مؤله في دين الله,, واما طاعة الائمة المسلمين في المعروف، وحرمة الخروج عليهم: فيعلم هذا الرقيع انه ليس رأيا ذهب اليه احمد بن حنبل رحمه الله، وانما هو نصوص شرعية ظاهرة قطعية، واجماع من علماء السلف بما فيهم الامام احمد,, وذلك رحمة كبرى من الشرع المطهر الذي من حكمته المعادلة بين المصالح والمفاسد,, ويعلم هذا الرقيع ان التلاعب بكراسي الحكم ألحق بالامة من خسائر في الارواح والاموال ما يعادل المواجهة عشرات المرات لدويلة متفوقة عسكريا وعلميا تدعمها جميع امم الكفر ماديا ومعنويا,, ولم نواجهها مرة واحدة مواجهة ذات خطر,, وتلك هي اسرائيل دولة الاغتصاب لحقنا العربي الاسلامي بحبل من الناس,
واعود الى ابن رشد وقد فضَّلته ايمانا على هذا الرقيع,, أما علما وذكاءً وفكرا، فليس هذا البولعراس في مصف العصا حتى نَهين ابن رشد ونقول السيف امضى من العصا,, وانما هو حاوي هذر صحفي وعربدة لفظية,, وكل كفره تقليد كفار,,مع خمول وبلادة في الفكر والاحتجاج، وحسبنا الله ونعم الوكيل,
،1 مجلة دراسات عربية /العدد الرابع/ السنة الحادية والعشرون سنة 1985م ص86,
،2المصدر السابق ص 86-87,
،3الرؤية من رأى اللازم، والرؤيا من المتعدي فما أراكه غيرك فهو رؤيا، ولهذا اختصت الرؤية باليقظة والرؤيا بالمنام,
،4 مجلة دراسات عربية ص 87,
،5 بل لأنه احد ليس كمثله شيء,
،6 كم عمر هذا المهرطق لو عُمّر عمر ابليس لقاء الحياة السرمدية بعد البعث، ليضع هذه المعادلة بين عذاب الجسم وراحة النفس,, ثم ان هذا المتباهي بكفره محجوج بأن يجد في الكفار من قتالى الانتحار والقلق والجنون من هو اريح نفسا، واشرح صدرا وانعم واطهر جسما ممن تحرر وتقوى وسعد وانس بالعبودية لربه؟!,
،7المصدر السابق ص 87


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved