التوفيق بين الدين وما يعارضه تاريخياً
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: تراث المسلمين في التأليف ضخم جداً،وما فقد منه أكثر مما بقي مخطوطاً أو مطبوعاً يدل على ذلك المقارنة - في حقل علمي واحد - بين ما ذكرته كتب الفهارس والتراجم وبين ما أثبت في فهارس المخطوطات ومعاجم المطبوعات ولكنني بالاستقراء، وبالاطلاع على استقراء غيري لم أجد كتاباً أفرد في التوفيق بين العقل والنقل قبل كتاب ابن رشد ·فصل المقال وهذا لا يعني أن العلماء أهملوا بحث هذا الجانب وتحقيقه في كتبهم في مسألة أو فصل من كتاب غاية ما في الأمر أنني لا أعلم أن لأحدهم كتاباً مستقلاً في هذا الغرض وجاء تبصرُّ العلماء قبل ابن رشد في هذه المسألة، وتحقيقهم لها من : ثلاثة ملامح
أولها: مسألة التعارض بين النصوص الشرعية، وفحص العلاقة بين المتعارضين بالجمع بينهما، أو ترجيح أحدهما والتقعيد والتقنين في هذا صنو التقنين والتقعيد للتعارض بين العقل والنقل
وثانيها: هذه المسألة بذاتها أي مسألة التعارض بين العقل والنقل، فقد بحثوها في شتى كتبهم
وثالثها: عناصر قوانين التوفيق بين العقل والنقل ككون السمع يفيد الظن أو القطع، وكون العقل له حكم قبل الشرع بتحسين أو تقبيح إلخ فكل هذه العناصر بحثها العلماء مبكراً منذ نشوء علم الكلام
وعن ظاهرة التوفيق قبل ابن رشد قال الاستاذ عبدالكريم المراق: ·إن ظاهرة التوسيط والتوفيق ليست غريبة في الفكر الإسلامي، فقد عرفها المتكلمون والفقهاء، وعاناها كذلك الفلاسفة، فكانت الأشعرية وسطاً بين مذهب السلف القائم على التسليم بحرفية النص، ومذهب الاعتزال الذي يعتمد العقل في فهم النص وتأويله
وكذلك كان المذهب الشافعي وسطاً بين مذهب مالك بن أنس الذي يعتمد في الغالب على النص من الكتاب والسنة، ومذهب أبي حنيفة النعمان الذي يعتمد كثيراً على الرأي والاجتهاد
قال أبوعبدالرحمن: هي وسطية كم لا كيف أثبتوا بعض الصفات وأولوا بعضها وإنما الوسطية للسلف الذين لم يعطلوا، ولم يشبهوا، ولم يقولوا بالتخييل، ولم يصرفوا الكلام عن ظاهره الا ببرهان على إرادة غير الظاهر، ولم يقبلوا أي ظاهر الا ببرهان تصحيح، ولم يعينوا ظاهراً دون ظاهر الا ببرهان ترجيح
وإن أراد بحرفية النص إلغاء معقول النص ودلالته الخفية، فليس ذلك بصحيح؛ لأن ذلك ليس هو مذهبهم وإن أراد بحرفية النص ما يدل عليه النص مباشرة أو استنباطاً: فذلك هو مذهب كل العقلاء؛ لأن كل قضية إنما تعطيك ما فيها
وقال المراق: وقد كانت قضية التوفيق بين الدين والفلسفة أو بين الوحي والعقل إحدى المسائل الكبرى التي أثارت حفيظة المتكلمين ضد الفلاسفة منذ عهد الكندي الذي أكد في رسالته الى المعتصم بالله وحدة الغاية بين عمل الفلسفة وما يأتي عن طريق الأنبياء والرسل؛ فقال: ·لأن في علم الأشياء بحقائقها: علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة،وجملة علم كل نافع، والسبيل إليه،والبعد عن كل ضار، والاحتراس منه واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه؛ فإن الرسل الصادقة إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحده، وبلزوم1 الله وحده، وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده وكذلك آمن الفارابي بوحدة الحقيقة 2 مما حدا به الى التوفيق بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو كخطوة أولى في سبيل التوفيق بين الوحي والعقل على أساس أن كلا من النبي والفيلسوف يستمد الحقيقة من العقل الفعال واهب الصور، وأن الاختلاف بينهما إنما هو اختلاف في طريقة الوصول، وكيفية عرض هذه الحقائق؛ ذلك أن النبي بحكم ما عنده من قوة المخيلة 3 يتصل اتصالاً مباشراً بالعقل الفعال؛ فتفيض عليه الصور والحقائق بدون عناء، وتعرض هذه الحقائق في قالب مبسط ومشخص تقريباً للأذهان؛ لأنها موجهة الى عامة الناس وجمهورهم في حين أن الفيلسوف بحكم ما عنده من القوة العاقلة وبتدخل من العقل الفعال يدرك الحقائق في صورها المجردة والكلية؛ لأنها موجهة الى الخاصة
قال أبوعبدالرحمن: أما تسمية الله عقلاً فعالاً فغير مقبولة لفظاً؛ لأن تسمية الله على التوفيق ونظرية العقول المتعددة خرافة ميتافيزيقية؛ بل كل شيء يصدر عن الله سبحانه: إما بفعله مباشرة، وإما بإقداره خلقه على الفعل، وإما بكلمة الكينونة ولا لقاء بين النبي والفيلسوف؛ لأن الفيلسوف يبحث بوسائط، ويصيب ويخطىء والنبي يتلقى عن الله دون كسب منه، وهو على الحق والخير والجمال بإطلاق لا يمكن أن يكون وحي الله إليه غير معصوم البتة
وقال المراق: لقد احتلت ظاهرة التوفيق بين الفلسفة والدين مكانة هامة بالنسبة لفلاسفة المشرق غير أنها كانت أكثر أهمية بالنسبة لفلاسفة المغرب ولعل هذا يظهر بالخصوص في أن فلاسفة المشرق لم يفرد منهم أحد هذه المسألة بكتاب خاص في حين أننا نجد من فلاسفة المغرب كابن الطفيل الذي أفرد لهذا الموضوع كتاباً خاصاً هو قصته المشهورة ·حي بن يقظان ، كما خصص ابن رشد لنفس الموضوع كتابين هما ·فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال و·الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبه المزيفة والعقائد المضلة يضاف إلى هذا ما أورده في كتابه ·تهافت التهافت وفي بعض شروحه لكتب أرسطو
ولعل مرد هذه الظاهرة قوة الروح المحافظة التي كانت سائدة في عصر ابن رشد وابن طفيل في بلاد المغرب والأندلس، والتي كان يتزعمها رجال الدين الذين بيدهم العامة، ويتمتعون بنفوذ واسع لدى رجال السياسة ومن الثابت أن هذه الروح المحافظة قد تدعمت بالهجوم العنيف الذي شنه الغزالي على الفلاسفة في كتاب ·تهافت الفلاسفة على الخصوص، وهكذا يبدوأن الموقف كان يدعو إلى المزيد من تأمين النفس ضد غضب العامة التي كان رجال الدين يحركونها، وبالتالي ضد رجال السياسة الذين كانوا يخشون فقهاء عصرهم، وقد رأينا أن هذا كله لم يكن كافياً لحماية ابن رشد في النهاية من كل ما تعرض له في محنته
قال أبوعبدالرحمن: في هذا الكلام تأكيد لصحة الدعوى عن نفاق ابن رشد في مراوغته التوفيقية وما ذكره ظواهر تاريخية صحيحة، ولكن هذه الظواهر الصحيحة ليست هي العلة الصحيحة للهجوم على ابن رشد، بل العلة الصحيحة أن ابن رشد يواجه مفكرين سويين من علماء الشريعة يفرقون بين مدلول النص الذي هو المراد الشرعي، وتقويل النص الذي هو الأهواء البشرية، ويعرفون للعقل قدره، ولا ينسبون إليه ما ليس من علمه ولاقدرته ولا سيما في المغيبات
وقال المراق: ·وقد تكون محاولة ابن الطفيل التي توخى فيها الأسلوب القصصي المشوق، والتي 4 كان لجأ فيها الى الاستعانة بالرموز، وينسب 5 الآراء الفلسفية المحرجة الى مجهولين حتى يتحاشى التعبير عنها بالصراحة المطلوبة أي كأنما ابن الطفيل كان يستعمل نوعاً من التقية حتى يخفي حقيقة آرائه الفلسفية،وبذلك يتقي إثارة الجماهير ضده في حين أن ابن رشد كان صريحاً؛ فعبر عن آرائه بصورة مباشرة وواضحة، وبذلك نجا ابن الطفيل ولم ينج ابن رشد من المحنة
وقد تناولت قصة حي بن يقظان موضوع التوفيق على أساس أن في الشرع ظاهراً وباطناً، وأن العقل البشري قادر وحده إن لم يدرك الوحي ان يصل الى معرفة ما جاء به الشرع الإلهي من وصف العالم الإلهي والجنة والنار والبعث والنور6 والحشر والحساب والميزان والصراط وقد رمز للعقل البشري المستنير ببطل القصة الذي هو حي بن يقظان، ورمز لمن لا يكتفي بظاهر الشرع، ويغوص في باطنه بالشخصية الثانية، وهي شخصية أسال، ثم رمز لجمهور الناس الذين يقفون عند ظاهر النصوص الشرعية بسلامان؛ لأنهم لا يقوون على الغوص في الباطن ويتم الاتفاق بين حي بن يقظان وأسال كرمز للاتفاق بينهما وبين سلامان تسليماً بأن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الناس طبقات، ومتفاوتين في مداركهممنهم من لا يطبق معرفة الحقائق عارية بذاتها وهؤلاء هم عامة الناس وجمهورهم، ومنهم من لا يقوى على مكاشفة الحقيقة وهؤلاء هم الذين وهبوا عقولاً راجحة وللشريعة تعاليم ظاهرة وأخرى باطنة لا يقوى الجمهور على إدراكها وتدركها الخاصة 7
قال ابوعبدالرحمن: ونقل ابوحيان عن إخوان الصفا قولهم: ·إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات،ولاسبيل الى غسلها وتطيرها الا بالفلسفة؛ وذلك لأن الفلسفة حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية: فقد حصل الكمال 8
قال أبوعبدالرحمن: الشريعة محفوظة بضمان الله، وإنما التلبيس حصل في العقول بتضليل من الأبالسة، وحيل حاقدة من قبل المليين الذين يودون لو نكفر، والنحليين والطائفيين والعرقيين من طوائف الشعوبية واليهود أعظم كيداً؛ لأن عملهم في الظلام، وقد نشأ عن كيدهم فرق ضالة لا يحصيها العد تشبعت بالباطل، فعملت مثلهم في الظلام كفرق الباطنية والبهائية
والذي صان الشريعة عن اللبس - إحقاقاً لضمانة الله الكونية - عدول الأمة من علمائها ومفكريها بتصحيح النقل ثبوتاً بطرق التوثيق التاريخي، وتصحيح النقل دلالة بالعلم المحقق في اللغة والفكر
وقال عبدالحي بلولعراس: ·أما ابن رشد فقد حاول الجمع بينهما، وكان في ذلك عقلانياً نزاعاً لاستعمال القياس والنظر،متجنباً الطريقة النقلية التواترية التي تكتفي بالرواية في حين نجده لا يسلم بأمر على أنه حق الا إذا تأكد بالنظر أنه كذلك، وقام بالجمع بين العقل والدين على أساس عملهما على نشر الخير والعدل وهو ما عارضه الغزالي والفقهاء الذين تحاملوا على الفلسفة،ونفروا منها لما تطرحه من ترك للتقديس، وتأسيس للإيمان على العقل الخالص ولعل هذا مايفسر سبب محنة ابن رشد 9
قال ابوعبدالرحمن: التواتر يقين كل المفكرين، واسقاطه اسقاط للعقلز وطرق النقل الصحيحة الأخرى تحقق يقيناً أو رجحاناً ومن قام في ذهنه الرجحان ولم يعمل به: فإما أن يتوقف عناداً، وإما أن يخرج من العهدة بسلوك آخر عصياناً، وإما ان يعمل بالمرجوح سفهاً وتحكماً
ودعوى الاكتفاء بالرواية النقلية محض الكذب والافتراء، بل الرواية لاتثبت الابنظر عقلي وحسي مضنٍ، وبعد ثبوتها يكون العمل بمدلولها اللغوي، ومعقولها الفكري
والنظر إذا كان يقيناً كضرورات الفكر الفطرية والإكتسابية، أو رجحانياً بعد الموازنة بين الاعتبارات المحتملة: فأهل الشريعة أسعد بذلك
وإذا كان النظر احتمالات مرسلة غير ممكنة، أوغير متعينة: فعلماء الشريعة أقدر على تبرئة العقل منها
وهم إنما يدعون إلى تقديس الله، وتقديس الشرع المعصوم بعد صحته دلالة وثبوتاً ،هذا هو ضرورة الفكر التي أنتجت الإيمان بالشرع وغاية ما عند هذا المسكين ثلب المسلمين بإيمانهم، واخلاصهم لضرورات الفكر، وعبوديتهم لربهم التي هي الحرية من كل نقص وجهل وباطل وقبح وشر
ويتأسس الإيمان على العقل الخالص - وهو الأفكار الفطرية - من جهة أحكام الممكن والمتعين والمستحيل وهذا هو أساس علماء المسلمين في الإيمان بالله وكتبه ورسله ثم بضرورات الفكر الفطرية والكسبية تلقوا شرع ربهم فهماً وتمييزاً وحكماً وهم يميزون بين الواقع الصحيح المغيب الذي لا يصل العقل الى كيفيته ومقداره، وإنما يصل الى الحكم بإمكانه قبل العلم بالشرع المخبر به، ويصل الى تعينه من خبر الشرع؛ لأن ضرورة الفكر تقتضي الإيمان بالشرع المعصوم بعد صحته دلالة وثبوتاً
وسبب محنة ابن رشد أن مفكري علماء المسلمين، وضرورات العقل والشرع كل ذلك يرفض القدح في الرسالة المعصومة بأنها خطاب للعامة على مستوى عقولهم؛ وأن حقيقة الوحي لا يوصلها النص، وإنما يوصل إليها الخيالات البشرية،ويرفضون تقويل النص بتأويل يصرف الكلام عن ظاهره بغير برهان يمنع من إرادة الظاهر، وبغير برهان على التأويل المدعى تصحيحاً وترجيحاً
،1 يقبل هذا الكلام بمعنى توحيد العبادة فعلا وقولا واعتقادا
،2 وهذا بدهي؛ لأن الحقائق لاتتعارض
،3 هذا محض الكذب والافتراء على رب العالمين ورسله،بل عند النبي عقل سوي، وقلب يعي، وضمانة من الله ألا يبلغ الرسول وحي ربه عن سهو أو نسيان أو وهم
،4 الواو لحن ها هنا؛ لأنه لا عطف بين الصفة والموصوف
،5 لوقال: ونسبة؛ لكان أفصح
،6 هكذا في الأصل، ولعله تطبيع، وأن المراد النشور
،7 الحياة الثقافية التونسية/ السنة الثانية سنة 1396هْ ص 73-74
،8 الامتاع والمؤانسة 2/5،ونحن والتراث للجابري ص334
،9 مجلة دراسات عربية/ العدد 4/ السنة 21 فبراير سنة 1985م ص80 عن كتاب نحن والتراث للجابري


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved