الأجوبة الأدبية
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من أسئلة الجزيرة ما وجهه إليّ الأستاذ هادي الزيادي بقوله: ·كيف كان حال الأدب في عهدكم وعن أهم معوقاته ومقوماته؟
قال أبو عبدالرحمن: إنما عنايتي بالشعر والمقالة، وكان هذان الفرعان متخلفين تقليديين ومن أدلة ذلك ان خطبة الجمعة في بلد حضاري كشقراء كانت مسجوعة مملة حتى جاء شيخنا سماحة الشيخ ابن غصون، فألغى السجع، وترسّل في خطبته، وبقيت بلدان إلى وقت قريب تسجع خطبها ومنذ عشرين عاماً تقريباً سمعت بعض الدكاترة يتعقب خطيب الجمعة في أحد جوامع بريدة منكراً هذا الأسلوب المسجوع المعتمد على الذاكرة والتقليد؛ لبعده عن التأثير، وواقع العصر
وكانوا يدرسوننا أيام الطلب العبرات والنظرات للمنفلوطي، وهي تشحن الانفعال العاطفي، وأسلوبها جميل بالنسبة للأساليب الموروثة لدينا
وقبل ذلك كان أستاذي عبدالله بن عبدالرحمن بن إدريس يُعجب بإنشائي، فيقيمني لأكتب على السبورة شيئاً من إنشائي، وكان رحمه الله مستاء من ·جواهر الأدب لأحمد الهاشمي، ويرى أنه أفسد الأدب بذلك، ولم يكن لدي من الوعي الأدبي ما يثير لدي التساؤل عن سبب استهجانه للجواهر
قال أبو عبدالرحمن: وكانت ذائقة الشعر عموماً تتجه على ثلاثة أنحاء:
،1- النحو الأول: مايليق بذوق المشايخ، وبعض العوام من حفظ وقراءة النظم من شعر الوعظ للقحطاني، وابن جابر، والوعيظي، ونونية الرندي، ونظم بعض علماء نجد
،2- النحو الثاني: المتنورون من المشايخ وطلبة العلم يتذوقون المعلقات والشعر الجاهلي بعامة، وشعر صدر الإسلام، وشعر عصر بني أمية، وشعر صدرٍ من عهد بني العباس أحياناً مع تذوق للشعر البديعي منذ القرن الخامس فما بعده إلى عصر ابن حجة، ويعنون بأزهارالربيع، وبمطبوعات شعبية في نصابه مثل كتيب ·مناجاة الحبيب تشمل شعراً للتلعفري والحاجري والشاب الظريف والصفي الحلي إلخ، وربما ترقوا إلى المتنبي وابن مقرب
3- النحو الثالث: المحدثون؛ فكانوا يميلون إلى شعر شوقي وحافظ والرصافي وشعراء المهجر، ويتابعون مجلة الرسالة للزيات ويتابعون القصيدة والمقالة دون القصة ويكبون على كتب طه حسين والعقاد
وهم يؤثرون القراءة للبحتري وأبي تمام والشريف الرضي وأبي نواس وبشار بن برد والمعري
وكان الصحفيون يتعمدون التعمل في الإنشاد مجاراة لأساليب أهل العصر المذكورة في النحو الثالث
قال أبو عبدالرحمن: وكنت في دراستي المنهجية المرحلية وكتبها المقررة شبه مكرهٍ، وكنت أحرص على جودة الأسلوب الإنشائي، ولكن لا أجعله غايتي خوفاً من أن يكون نصيبي مجرد التعمل الإنشائي، وكنت أنوّع مصادري على شح الموارد، فأتابع الرسالة وكانت ترد كراريس، وأتابع الدكاترة زكي مبارك مع فرط إعجاب ولم أترقَّ إلى أساليب أمثال سيد قطب، ودريني خشبة إلا في وقت متأخر وهكذا إشرافي على الرومانسية الغربية من أمثال بلزاك ولا مرتين؛ أو العربية من أمثال إبراهيم ناجي والمهندس لم أشرف على هذا الأدب، وأتعلق به إلا في الأشد
وكنت أقرأ في التراث لعلماء وأدباء ذوي أساليب حلوة مشرقة كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن جرير وابن حزم؛ فكان أسلوبي مزيجاً من التأثر بهؤلاء، وبالزيات، وزكي إلخ
ثم اتجهت لأدب الحداثة متذوقاً في الأقل، ومتقززاً ناقداً في الأكثر، وكان ديوان ·مدينة بلا قلب لحجازي جسر عبوري من الرومانسية إلى الحداثة ومهد لذلك موسيقياً ولعي بشعر الأغنية مثل لا تكذبي، ودرر من شعر رامي وبيرم أعشق ذلك كلمة كما أعشقه أداء
وقال الأستاذ هادي الزيادي: ·كيف بدأت في وسط كل ذلك، ومتى، وأين كانت البدايات؟
قال أبو عبدالرحمن: البداية في شقراء مسقط الرأس، ومن مكتبة المعهد، وبالاستعارة من كتب الخاصة، وبالشراء من الكتبيين،ومن خلال رحلاتي مع الوالد رحمه الله إلى الرياض والحجاز والكويت وقطر وكل ذلك مفصل في كتابيّ ·تباريح التباريح و ·شيء من التباريح
ويقول الاستاذ الزيادي: ·مَن من الأدباء وقف معك ومازلت تحفظ له ذلك ؟!
قال أبو عبدالرحمن: أما في أمور الدنيا فهم كثر على رأسهم بترتيب الأسماء على حروف الهجاء سمو الأمير عبدالرحمن بن عبدالله، ومعالي الأستاذ إبراهيم العنقري، ومعالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر، ومعالي الدكتور عبدالعزيز السالم، ومعالي الدكتور غازي القصيبي، ومعالي الأستاذ محمد أبا الخيل، ومعالي الشيخ محمد النويصر، وسعادة الأستاذ محمد الشدي
وأما في أمور العلم فسماحة الشيخ صالح بن غصون مرتين، والشيخ محمد بن عبدالرحمن بن داود على مدى خمسة عشر عاماً من آخر عمره المبارك، وهو أبي الروحي رحمه الله بلا استثناء، ويبقى لكل أساتذتي حقهم وواجبهم، وفي طليعتهم الشيخ صادق صديق، فعلاقاتي به في البيت أبوية أكثر من العلاقة في الفصل
ولا أعلم لأستاذ عليَّ أثرا في الأدب وإنما كنت تلميذ كتاب ودورية، وأسير حس جمالي وإحساسي الأدبي الجمالي غمسني في رحيق الفن والعذرية ردحاً من الزمن، ومن وراء ذلك كله طوق الحمامة!!
ويقول الزيادي: ·ماهي العوائق التي صادفتك، وكيف تغلبت عليها ؟
قال أبو عبدالرحمن: هي عوائق مادية أسرية عنيفة أذلتني بالسؤال من اليفاع إلى الكهولة، والآن بحمد الله خرجت من المأزق، وعشت في بحبوحة متع الله بالصحة والتوفيق وسعادة الدارين من كان سبب ذلك إلا أن هذه العوائق ببؤسها نعمة؛ لأن فيها أجر الصابرين الشاكرين، وفيها مراس حياة لمن هو مثلي عشبة غار وفيها كثير من الرضى لغير عظامي أصبح عصامياً!!
ومن أسئلة الجزيرة )الجريدة( ما وجهه اليّ الأخ الكريم عبدالحفيظ الشمري يقول حفظه الله: ·ترى هل أنت يا شيخنا ممن يبشرون بتداخل الأجناس الأدبية، ويهتمون بها
قال أبو عبدالرحمن: بل أعيش مابعد البشارة، وهو ممارستي لها، وأنها واقع حتمي لثلاثة أسباب:
أولها: أن بعضاًمن الأجناس الأدبية ضرورة في حياة طالب العلم كأدب المقالة والقصة والمسرحية والرواية والأقصوصة والحدوتة والمثل والحكمة؛ لأن طالب العلم بعد مرحلة الحضانة العلمية يدوّن علماً، وخير أداته الأسلوب المؤدي المؤثر، وكل ذلك تستقطر جمالياته وضروراته من الأجناس المذكورة آنفاً
وثانيها: أن قدري أن كنت ذا ثقافات وبعض تخصصات؛ فكان الشعر الذي هو أحد الأجناس الأدبية ضرورة في وسائلي الثقافية؛ لاستحضار المفردة اللغوية بجرسها الأدبي، وللتصفيق مع المغرِّد إذا كانت كلمته ولحنه من الذوق الرفيع
وثالثها: أنني ذو عناية بالجمالية إحساساً وعلماً وتنظيراً وكل الأجناس الأدبية من الفنون الجميلة إلا أن جامعها القول مجرداً؛ فما دمتُ أعيش بواقع النظرية الجمالية فمن البدهي أن أعيش واقع الأجناس الأدبية
ويقول عبدالحفيظ: ·هل تأثرت بمايشاع الآن من إهمال للمشروع الأدبي الخاص ؟
قال أبو عبدالرحمن: كلا، فقد كتبت الأسفار التالية: الالتزام والشرط الجمالي، والقصيدة الحديثة وأعباء التجاوز، والعقل الأدبي، وجدلية العقل الأدبي، وفي نظرية الشعر والجمال وكلها كتب مطبوعة، والأخير سفر ضخم فوق خمسمائة وخمسين صفحة
والمشروع الأدبي ضرورة في حياتي الثقافية، وهو الحقل المعرفي الثالث في تخصصي، وبيان ذلك: أن المعايير في الوجود إما تصورات وأحكام عقلية في الذات والموضوع، وذلك هو الحق والباطل وإما سلوك نافع أو ضار، وذلك هو الخير والشر والقيمة في كل ذينك الحق والخير وإما بهجة أو برودة أو تقزز في الذات إزاء الموضوع، وذلك هو الجمال والقبح والقيمة للجمال
أما قيمة الخير فلم أعن بها اكتفاء بالأدب والأحكام التكليفية من ديننا المطهر، وإنما كانت ثقافاتي وتخصصي فيما يتعلق بقيمتي الحق والجمال تنظيراً، وبقيمة الخير توظيفاً
وأكثر عنايتي بالدراسات الشرعية تفسيراً وحديثاً وفقهاً وأصولاً، والدراسات اللغوية والتاريخية وكل ثقافة جانبية فهي خدمة لكل ذلك
ولتكون دراساتي منهجية صادقة فكرياً فصلت بين نظرية المعرفة البشرية العامة، ونظرية الحقل المعرفي الخاصة، ففي ميدان المعرفة البشرية تكون الدراسات الفكرية من ناحية قيمة العقل، وحدوده ودوره في المعرفة، وضروراته، واحتمالاته، وخيالاته، وأنواع مداركه ووظائفه، وتنظيم طرق الاستدلال؛ وذلك هو المنطق الفكري ولايراد المنطق منطق أرسطو بإجمال، وقد بينت في مناسبات عديدة بهذه الجريدة ضلاله وفضوله في مسائل جوهرية مثل القياس المنطقي وإنما المراد المصطفى من منطق أرسطو، واستخلاص البراهين التي عليها قناعة العقلاء منذ فجر البشرية في مباحثهم ومحاوراتهم استشهاداً بالعقل المغروز فينا
وفي ميدان المعرفة الخاصة يبدأ التأصيل باشتقاق نظرية الحقل المعرفي الخاصة من نظرية المعرفة البشرية؛ لينتظم الفكر، ويحصل الاختصار بالرد إلى المسلمات مثال ذلك المعرفة الشرعية التي نأخذ منها مراد الله منا في أوامره ونواهيه، وحقيقة التصور وفق المراد الشرعي فيما وقع أو سيقع مما ورد به الخبر الشرعي؛ فالمؤصل للمعرفة الشرعية مستغن بما فُرغ منه في نظرية المعرفة البشرية من دور العقل في المعرفة، ثم ما فُرغ منه في أصول العقيدة من ضرورة الشرائع، وعصمتها؛ فيكون مجال التأصيل تحقيق الثبوت والدلالة، والتقعيد لكيفية استنباط الدلالة من الخطاب الشرعي وجناحا الاستنباط الفكر واللغة وقد بينت في أول مسائل كتابي ·من أحكام الديانة الفضولي من الضروري من مسائل أصول الفقه
قال أبو عبدالرحمن: هذه قصة قيمتي الحق والخير، والمعايير منهما من الثوابت
والقيمة الثالثة القيمة الجمالية وسيلة وغاية، فالممارسة العلمية لا تكون موصلة، ومؤثرة، وذات جاذبية إلا بالعناصر الجمالية
والتذوق الجمالي، وتربية الحاسة الجمالية بأرقى النماذج في الموضوع،وإشباع غريزة الإحساس الجمالي بكل ما هو دون المحرم كل ذلك يريح ملكات العقل، ويكسب الذهن حدة ونشاطاً، ويطبع اللسان والسلوك على الأجمل والأحسن
وفي ميدان الدراسات الأدبية ما أنجزت منها، وما أنا بسبيل إنجازه على مستوى الشعر وحسب : اتخذت منهجاً فريداً؛ ولا أقول ذلك ادعاء، ولا افتخاراً، ولا تزكية للذات، وإنما أخبر عن حقيقة نافعة للدعوة إليها لا الافتخار بها وهذه المنهجية تقوم على ثلاثة أركان لا أكاد أعرف مدرسة أدبية جمعت بينهن، وأخلصت الوفاء لهن:
الركن الأول: نظرية معنى النص، وقد أقمت ذلك على أصول الظاهرية وحقيقة هذا الركن ألا تسقط من النص شيئاً من معناه، وألا تحمّله ما لا يحتمله، وأن يكون القياس لتحليل المعنى الكلي للنص الوفاء بكليته من غير إسقاط أو إضافة وقد أنجزت من ذلك تحليلي لقصيدة أبي العلاء الرائية التي طبعها النادي الأدبي بجيزان، وتحليلي لقصتي ·بنات آوى وعرب و ·مستوطنة العقاب لفرانز كافكا والسفر الثاني من كتابي مبادىء في نظرية الشعر والجمال وقف على ذلك
والركن الثاني: نظرية النقد التعاوني الجمعي، للإحاطة بالتصور للنص ومبدع النص؛ ولأجل استخراج معقول النص )معنى المعنى(؛ ولأجل التفسير والتعليل بجوانب خارج المعنى ومعنى المعنى تتعلق بالنص ومبدعه، وقد ذكرت جوانب من ذلك في دراستي المطولة لكافكا المنشورة بمجلة التوباد
والركن الثالث: نظرية الشرط الجمالي؛ فلا ينتقل النص من عموم القول إلى خصوص القول الفني إلا بالشرط الجمالي، وقد أسهبت في بيان ذلك بكتابيّ ·الالتزام والشرط الجمالي و ·مبادىء في نظرية الشعر والجمال ولا أزال أغذي هذا ا لجانب، وأتابع مستجداته
وما زاد عن ذلك فهو فضول خارج النظرية الأدبية، وقد بينت ذلك غاية البيان في صدر كتابي ·العقل الأدبي الصادر في سفرين عن النادي الأدبي ببريدة في بحثي عن التصنيف الأدبي، والله المستعان


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved