حضور المكان بين واقعية التصوير وغرائبية التوظيف في قصص ·عفوا لا زلت أحلم لنورة الغامدي
حسين المناصرة
تقع صيرورة المكان عبر حذف متواصل لما جرى التعود عليه لكنه كذلك خلط متواصل للعناصر المتخيلة والمحلومة - شاكر لعيبي
: ،1- أبعاد المكان
إن الكتابة عن نورة الغامدي في مجموعتها القصصية ·عفوا لا زلت أحلم تعني الدخول في عوالم متعددة من إشكاليات القصة القصيرة وهي عوالم تكمن أساسياتها في فعل المواجهة بين وعي المرأة سيدة ·الحكاية الشعبية وبين تيمات العالم المحيطة من امكانات لغوية وبينية وزمنية وشخصانية ومثل هذه العوامل التي تمتلك شروط ثبوتها في بعض جوانبها تصبح بكل تأكيد متغيرة في فضاءات المفارقة بين قاص وآخر وبين شرط تاريخي وآخر أيضا
ولعل مواجهة مقاربة المكان في قصص المجموعة تعد من أبرز ملامح تموجات القصة القصيرة لدى الغامدي، حيث إنها تحتفل احتفالا خاصا بالمكان الذي يأتي محملا بأبعاد تصويرية وملامح خرافية تجعل من بصمات المكان علامات واضحة في القص، وبالتالي لابد من تأمل الكثير من العبارات المليئة بدلالات ترميزية تجسد كثافة معينة لابد وأن يتصورها المتلقي في سياقات علاقة المرأة بالتحديد تجاه مكان معين قد لا يبدو مهما من وجهة نظر الآخر الرجل أو الطفل على سبيل المثال
ولو تأملنا مثل العبارات التالية في سياقاتها أو حتى بعيدا عن حقلها النصوصي؛ فإنها مقتطفات ستشكل وعيا مهما يقرب طبيعة الأمكنة المتنوعة من فضاءات توظيف خاصة، يبقى فيها الجنوب فضاء عاما تتشكل من خلاله الرؤية العامة للمكان
- تتحول ساحة المنزل الترابية إلى عجاج، ص 6
- اكل هذه المساحات جافة ص 10
- هل تود دفني في مكان أبعد من هذا ص 13
- قالوا: كيف تنبت نخلة فوق جبل بارد ص 23
- نظراتها تستجدي الحائط المرتفع كل الأبواب مغلقة ص 28
- لم يكن هناك غير صوتها في ذلك ·الهو الواسع ص 39
- كانت تحملك بيد وتبذر الأرض باليد الأخر تحرث تحصد لا تهاب أحدا ص 48
- للمرأة الجوز والا القوز ص 58
- أخاف من الغرف الباردة ص 64
- إنه شبح اعيدوا كل شبر أخذته إلى أصحابه ص 82
- الجموع تندفع مع اندفاعات المدينة التي تمددت كالأخطبوط ص 93
·درزن العبارات السابقة مأخوذ من ·درزن القصص ولعل تكثيف بعض أبعاد المكان في مثل العبارات السابقة يشير بطريقة ما لأهم ما تراه هذه المقاربة حيويا في فضاء المكان في المجموعة حيث تحضر عدة أمكنة على مستوى العبارة منها: ساحة المنزل والمساحات الجافة والمدفن والجبل البارد والحائط المرتفع والهو والأرض والقوز والغرفة الباردة وشبر الأرض والمدينة إلخ
ولو حاولنا النظر إلى علاقة مثل هذه الأمكنة بأشياء أخرى ملازمة لوجدنا بعض التكوينات أو الأنساق المهمة التي تجعل من الكتابة مهما كان نوعها احالة إلى علائقية بين تكوينين أو طرفين واكثر، إذ يمكن التأشير على بعضها من وجهة نظر القص على النحو التالي:
المساحة الجافة/ الماء
المدفن/ المرأة
الهو/ الاغتراب
تشكيلات الأرض/ حقيقة الحياة إلخ
فهذه العلائق الاشكالية هي المركزية التي تفرضها علاقة المكان بالإنسان على وجه الخصوص وما يقدمه المكان لدى المجموعة هو بالتحديد تجليات المرأة في حضور تراجيديا حقيقة الحياة التي تشكل الخوف والاغتراب النفسي دون اهمال السعي في مسلكية الخصب والامان التي تعني تجليات الأرض بانسانها على نحو من توصيف الحياة التي تحل بعد الخراب كما هي الحال التي أصبحت عليها المدينة الجنوبية التي تطهرت من الظلم ·هادئة مزهرة خضراء يسكنها أناس لا تقفل أبوابهم بل إنهم حيث يرون الضيف أو العابر يخرجون إليه حاملين المشاعل والزهور وهم يتنادون هيا يا رفاق ص 83
ويبدو أن تحديد حضور المكان في ظل اشكاليتي الواقعية والغرائبية يفضي بالكتابة إلى ممارسة وعي الاغتراب داخل المكان المألوف، ليصبح هذا المألوف من خلال الرفض والكسر العالم الذي تبحث عنه البطلة بالتحديد عن طريق تيمة التمرد بطريقة أو بأخرى: كما سنلاحظ من خلال وعي التمرد للكسر
2- التمرد لكسر المألوف:
في قصة ·العصابة الحمراء يمارس وعي الذاكرة من خلال الطفلة الغناء في صورة ·نشيد يتردد بصوت متقطع، أصداؤه تتجاوب عبر الوادي الذي يطل منزلنا عليه والرابض على ربوة شديدة الانحدار ومكاني فوق شجرة العرعر وسط ساحة المنزل الطيني الكبير لا يتغير ص5 فهذا الهدوء المتمثل في امتزاج الغناء بالمكان يتحول في لحظة الغبن إلى جنون حيث تجن هذه الطفلة وهي ترى ابن عمها يتعلم في المدرسة وهي حبيسة هيكلية البيت وحبيسة الجهل الذي ترى الآخر يتجاوزه من خلال معرفة الكتابة؛ تقول عن ابن عمها: ·يتعمد قهري وهو يحاول كتابة اسمي، انظري لقد كتبت اسمك تكويني الغيرة أتململ في مكاني أنا مصممة على أن أطلب من أبي أن يدخلني المدرسة ص 6-7
ومن خلال طقوسية المرأة الجدة ينجح تمرد البطلة الصغيرة في التغلب على هيمنة السلطة الأبوية الذكوريةُ وذلك عندما تضع الجدة عصابتها الحمراء في حجر ابنها لأجل أن يحقق طلبها الذي هو السماح للبنت بدخول المدرسة التي انشئت حديثا في القرية
وفي السياق نفسه نجد بطلة قصة ·مس الماء تتمرد على واقعها الذي تعيش فيه وهو مكان كابوسي اغترابي جاف يخلو تماما من الماء الذي جعل من الحياة قيمة لذلك يعلو صراخ البطلة وهي ترى الجفاف والصحراء تحيط بها؛ فتهرب بحثا عن الماء تلحق السراب وتحفر في أمكنة عديدة حيث ترى موتها في البقاء بعيدة عن الماء ·سأموت لو لم أشرب الماء ص11
ولكن هناك شبح مشابه إلى حد ما للرجل يركض وراءها وهو يصرخ فيها كي لا تشرب الماء لأنه سيقتلها: ·قلت لك ستموتين ابتعدي عن الماء ص12
ومن خلال الصراع الدرامي بين الذات والآخر حيث التناقض حول مسألة كون الماء سببا للحياة أو سببا للموت ينتصر وعي البطلة بحقيقة جوهر الماء الباعث للحياة فتصل إلى حفرة الماء وتمارس طقوسية الحياة المتضادة مع الجفاف التي يريدها لها الآخر: غمست يديها في على حافة الحفرة تدلس قدميها في الماء تعبىء يدها تغافل الأعين التي تراقبها ترطب شفتيها المحترقتين وتستلقي من جديد وعيناها تضمان الفضاء وشفتاها تستعذبان مس الماء ص12
نجد في القصتين السابقتين صورتين متضادتين للمكان ففي قصة العصابة الحمراء يبدو المكان مألوفا تتحرك فيه آليات القرية بعاداتها التي تفرق بين المذكر والمؤنث في التعليم التيمة المحورية التي تلتقطها القاصة لتكشف من خلالها تمرد الطفلة من اجل التوازي مع المذكر في هذه المسألة الضرورية لكن قصة ·مس الماء جاءت لتصور مكانا ترميزيا غير مألوف وما صورة الجفاف المستحكمة بالمكان المحيط بالمرأة سوى حالة من الاغتراب والسجن الذكوري الذي سعت المرأة للتمرد عليه بحثا عن الحياة والحرية والخصب وبالتالي كشف أكذوبة الحياة البعيدة عن الماء أساس الوجود وبذلك يصبح التمرد في القصتين تمردا مشروعا وحقيقيا لأنه تمرد من أجل المعرفة ومن أجل الحرية في التفاعل مع ديناميات الحياة المتجسدة في الماء الواقع والرمز
وفي قصة ثالثة مهمة بعنوان ·اليقين يجيء الكسر أو التمرد على المألوف من خلال الرمز أيضا تحقيقا للوعي الاغترابي الذي هو أساس المعرفة والتجلي الأسطوري في الكتابة المعاصرة وذلك عندما نجد البطلة في علاقة اندماجية مع ما يعتقده الناس خرافة وخارجا عن المألوف إذ تمارس البطلة فعل المفارقة بينها وبين الآخرين في التفاعل مع ثقافة مكانية غير مألوفة من وجهة نظر الآخر الذي قد يتصور مثل هذا التفاعل حالة من حالات الجنون على غرار: ·أعيدوها أعيدوها الكنود المجنونة ص25
ولكن الكنود لا تعترف بأنها مجنونة بل هي متمردة ترفض وعيهم المألوف وسياقهم العادي وتقرر أن الغرابة هي الوعي الحقيقي وانه مصيرها الذي يجب أن تتمسك به ·لا لن أعود لن أكون مثلهم أولئك الذين يخشون بذرها كلهم يرونها غريبة مشؤومة قالوا إنها روح سكنت في غير مكانها قالوا كيف تنبت نخلة فوق جبل بارد؟ ص23
فالنخلة الغريبة المشؤومة المرفوضة والمخيفة من وجهة نظر الآخر تصبح هدف الكنود ومصيرها الذي يتحقق من خلاله تمردها وانجازها الذي يرفض الآخر عندما يكون اداة قمعية تجاه نخلة غريبة أو تجاه امرأة غريبة وهنا تتحقق مقولة ·وكل غريب للغريب قريب لذلك تحاول الكنود الصعود إلى النخلة وما أن تجدها عنيدة حتى تكتفي بتمرة واحدة تسقط في حجرها لتتمظهر هذه التمرة وكأنها سر الحياة وسبب قوتهاتبحث البطلة عن أحق الناس بهذه التمرة فتستعرض الآخر في هذا السياق
تجد صورة الأب ·يحمل عصا سوداء هشتني كما تهش شاة عجفاء صوب مربطها يد قاسية تضربني تضرب وجه أمي وصوت أجش يصرخ مجنون من ترك عنق امرأة يرتفع ص34 وتجد صورة الأم تتلخص في تنفيذ قوانين الأب بغباء أماالحبيب فهو مؤذ لأنه صاحب ·عقدة دونجوانية وما ان تتعاطف مع المذكر وهو معاق يطلب منها صورة صحيفة لكرسي متحرك أو أن تتعاطف مع صديقتها صبا حيث المشابهة الاجتماعية والنفسية حتى تخرج من دائرة التعاطف هذه لتجد نفسها الوحيدة المستحقة للتمرة فتبتلعها مما يثير الآخر ويحقق غضبه ولكنها على المستوى الذاتي قد تتحول إلى مخلوقة أخرى، لؤلؤة تضيء شواطىء الدنيا ص25 كما كانت تتوقع لأمها فيما لو اعطتها التمرة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved