رؤى وآفاق
فكر الأزمات
يبرز الفكر النير في زمن الأزمات اكثر من بروزه في الايام الخالية منها، ذلك ان اصحاب الرأي لا يلتفت اليهم الا في وقت الحاجة وقد قال المتنبي الرأي قبل شجاعة الشجعان وصاحب الفكر لا يبخل به على امته ولا يحجبه عن الوصول الى مراكز الاستفادة منه فهو واحد من افراد الأمة يسعده ما يسعدها ويسيء اليه ما ينغص عيشها ويكدر صفو حياتها، وقد سخر اصحاب الرأي فكرهم لإسعاد الامم التي ينتمون اليها فعضد الفكر القوة العسكرية وشد ازرها وابعدها عن الزلل، وقد كان للفكر الاغريقي الاثر الكبير في تحقيق الانتصارات التي احرزها الاسكندر المقدوني بينما نرى عرب الجاهلية قد اشتد بأسهم بينهم بسبب نقص الفكر وتوجيه الامة الى رأي واحد فدامت الحرب بين بكر وتغلب اربعين سنة ودامت الحرب بين عبس وذبيان اربعين سنة وكان التطاحن بين القبائل سمة الحياة الجاهلية، ونقص الفكر في الجاهلية ناتج عن استبداد القادة العسكريين بالامر فهم الذين يحجبون الرأي السديد عن عامة الناس في سبيل تحقيق رغباتهم الشخصية، وارضاء نزواتهم القتالية مما جعل المجتمع الجاهلي يدور في حلقة مفرغة حتى جاء الاسلام فأنقذ المجتمع العربي مما هو فيه من التخبط وافسح المجال لاصحاب الرأي والفكر ففي موقعة بدر وهي اول معركة كبيرة يخوضها المسلمون يستمع النبي صلى الله عليه وسلم لاصحاب الرأي فينتقل من الموضع الذي اختاره الى الموضع الذي اختاره اهل الرأي والمشورة، وعندما يكون القائد من اصحاب الرأي والفكر فانه لايتطاول على غيره ولا يغتر بانتصاراته، فخالد بن الوليد سلم القيادة لابي عبيدة وهو في اوج انتصاراته في الشام، بعكس عبدالرحمن بن الاشعث الذي اغتر بعصبيته القحطانية فكان مصيره الفشل لانه سلك مسلك اهل الجاهلية في العصبية
وقد كان صلاح الدين الايوبي لا يخطو خطوة في حروبه في الشام ومصرالا وقد مهد لها عن طريق مشورة اصحاب الرأي والفكر، وكان من ابرز كتابه القاضي الفاضل والعماد الاصبهاني وابن الاثير، وكان هؤلاء يكتبون الرسائل لصلاح الدين طلبا للمؤازرة او دفع الشر او تحييد الخصم وقد برع هؤلاء الكتاب في كتابتهم في مضمونها وشكلها وان كان القاضي الفاضل يتقدم على غيره في الكتابة بدليل اعجاب صلاح الدين بكتابته مما حدا به الى القول: انمانُصرت بكتابة القاضي ورسائل العماد في البشارة بفتح بيت المقدس تنبىء عن فكر جم وليس ذلك بمستغرب من عالم اديب ترك لنا اكبر كتاب في تاريخ أدب الحروب الصليبية وهو خريدة القصر وجريدة العصر وأعظم وثيقة في فتح القدس وهو كتابه الفتح القدسي
وفي تاريخنا الحديث في المملكة العربية السعودية مواقف فكرية ازرت القيادة وهذه المواقف الفكرية مبنية علىالعقيدة فالملك عبدالعزيز قائد محب للعلم فقد تعلم في صغره وصحب العلم والعلماء طيلة حياته ومع ذلك فهو يطلب المشورة من العلماء واصحاب الفكر والرأي ففي وقت الازمات يفسح المجال لاصحاب الرأي ويستمع الى الصغير والكبير، كما حصل في مؤتمر الرياض الذي حضره ثمانمائة رجل في مجلس واحد وقد استمع اليهم من بعد صلاة الفجر الى ما بعد الظهر ثم واصل الاستماع في الليل وفي عهد الملك فيصل تفاقمت الازمات وعلت الجعجعة واحاطت بالمملكة من كل جانب وهي جعجعة اصابت العرب في الصميم ومازلنا نحاول ترقيع ما احدثته من صدوع في الامة العربية وقد كان فكر التضامن الاسلامي علاجا ناجحا لتلك الازمة وقد اعتمد خادم الحرمين الشريفين في أزمة اجتياح الكويت على فكر الشرعية وهو فكر ثابت وقد حاول فكر الجعجعة على فكر الشريعة وهو فكر ثابت وقد حاول فكر الجعجعة ان يجد قاعدة يتكىء عليها فلم يوفق ومازلنا نعيش ذيول تلك الجعجعة
د عبدالعزيز بن محمد الفيصل