خطوات يبتلعها الطريق(·2-2
مقاربة في:المغيب/ القرية/ الشخصية/ شاعرية اللغة
حسين المناصرة
ان حضور الشخصيات في القصص يجيء من خلال فاعلية السارد نفسه سواء من خلال ارتداداته الى طفولته او من خلال لحظة القص نفسها والقاص يمارس شبه السيرة الذاتية الا ان هناك حضورا مهما لشخصيات/ العجوز/ المجنون/ الصديق الخايب/ في المجموعة
ولعل حضور العجوز من اهم عناصر فاعلية القصص سواء من خلال النص المقتبس على الغلاف ·عادت العجوز لتجد الكهل يتلوى في مكانه أو من خلال الاهداء ·اليك اما رؤوما وروحا ما زالت هنا ·او من خلال القصة الأولى مرثية ·التي بطلها عجوز يتلوها قصة المجنون ثم قصة عجوزين
ومن خلال تعددية الشخصيات تتمظهر العلاقات على نحو من المفارقات، حيث تجد العجوز في قصة مرثية ·يرثي ذاته من خلال انهياره مع انهيار البناء القديم/ جدار الحصن في القرية ليحل مكانه ·الباطون المسلح ويكون الصباح حالة من الموت في الصباح كانت الشمس تشرق على احجار مبعثرة تشبه وجه عجوز وأنين متحشرج ينبعث بين الركام ص12
ان جعل قصة مرثية في بداية المجموعة جاء اختيارا موفقا؛ حيث تمتاز هذه القصة بعناصر سردية مكثفة اخرجت صورة العجوز في اطار مشابه لصورة العجوز في رواية الشيخ والبحر لهمنجواي
الا انه مشدود الى ايقاع القصة المحلية التي عالجت علاقة الانسان العجوز بجداره الذي اصبح عجوزا مثله، كما اتضح هذا من دراسة قمت بها عن الجدار والانسان في بعض القصص القصيرة بالمملكة نشرت في ·اذرع الواحات المشمسة
أما العجوزان في قصة مساء صغير فإن علاقتهما تصبح حميمية مع النار وسيلتهما الوحيدة للامتداد مع الحياة وهي قصة اخترتها لتكون النموذج التطبيقي في هذه المقاربة وفي قصة ·لليل اصابع تتواجه العلائقية بين الاطفال والعجائز مع الليل الذي يجيء بحركات عابثة فيما يشبه الخرافات وهذا ما نجده ايضا في قصة ·الفانوس الأزرق حيث تكون النار والضوء وسيلة من وسائل محاربة الناس لليل اضافة الى اصوات الناس وتجمعاتهم
***
وفي حقل آخر تقدم قصة ·الناي المجنون ، حالة جنون غريبة صورتها في القرية أن ·عبدالرحمن المجنون لا يمشي دون سكين في حين يحدث التفاعل الحذر بين الراوي والمجنون، لنكتشف المجنون فنانا لا يحمل سكينا، وانما نايا المجنون يقتعد حجرا أملس خلف البيت ينزوي هناك بدا مغمض العينين مستسلما لحلم شفيف، يخرج الناي من غمده بعناية، شفتاه تستعدان، تلمع السفلى بريق بليل، تتحرك انامله برفق تصغي المحلة والاشجار لناي حزين يرحل في اتجاهات شتى ص18
ويبدو ان استثمار القاص بالجنون وتحوله الى الابداع من اهم حركات الوعي بالواقع الذي يعيشه الناس في قرية مفتوحة اجتماعيا
***
وفي قصتي ·عريس و·أسنان الغزال يلتقي وعي الطفولة المسكون بالخرافة بوعي التحول والخروج من عباءة الماضي لمواجهة الحاضر الذي يتحول الطفل الى شاب خائب او عريس ضمن ثقافة القرية وتحضر الاسنان كقيمة مفعلة للقص في القصتين، عند الطفل الذي كانت تتساقط اسنان الحمار اللبنية طالبا من الشمس ان تحل مكانها اسنان الغزال الدائمة أو في بقائها علامة مفضية الى ابتسامة قلقة
فالطفولة أو مرحلة ما قبل الخروج الى المدينة جاءت من اكثر اشكاليات الكتابة لدى ظافر جبيري الذي بدا متأثرا كثيرا بتكوين قريته الجنوبية
***
بخصوص مسألة اللغة في القصص فأنا أعتقد أن كافة القصص تحتفل بلغة شاعرية مليئة بالصور والتراكيب المشهدية الواصفة المكثفة، اضافة الى التداعيات المختصرة، الأمر الذي يجعل من القصص حالة مقاربة بشكل كبير الى اللغة الشعرية أو الى القصة القصيدة، دون ان يضعف هذا الأمر من حركية السرد ا لت يتكشف عن ابعادها من خلال الشخصية الزمكانية بشكل خاص، مع تغييب للدث الذي يحل مكانه علاقة تركيبية تستفيد من الومضة والتداعي والوصف المشهدي
***
يبدو لي أنني انجزت بعض سياقات المغيب/ القرية/ الشخصية/ شاعرية اللغة/ فالارتباط وثيق ماب ين لمغيب والقرية في وعي شخصيات القصص، وقد احتفل القاص بلغته كثيرا لينجز حركية سرد شعرية
من خلال قصة ·مساء صغير يمكن ان ينشأ الخلاف حول مدى مشروعية وصف مثل هذه ·القصة بأنها قصة، أو حتى بنية سردية!! لماذا لا تكون مثلا ومضة، أو خاطرة، أو قصيدة نثرية، فغياب عناصر السرد الفعلية حاضر، حيث الغياب للحدث، وللشخصية الممتدة، وللحبكة، وللغة السردية الانتشارية، وللتكنيك القصصي بمجمله من الناحية العادية والمألوفة في السرد التقليديلكنني اعتقد ان اختيار هذه القصة من بين قصص المجموعة جاء بحكم مساحتها المحدودة )حوالي 150 كلمة(، فهي قصة قصيرة جدا تمثل الى حد ما نهجا اتجهت اليه القصة الحديثة التجريبية المغامرة
فالقصة المشار اليها تحتفل بوصف زمكانية خاصة، وتصور حدثا بسيطا للغاية، معمقة بذلك بعض التكنيكات اللغوية الشعرية، فهي قصة تحوي سبعة افعال: القى العجوز مسحاته متمتما بتعاويذ المساء/ هجع العجوزان في احدى الغرف/ العجوز تقدم حزمة البرسيم للبقرة/ العجوز تجد الكهل يتلوى/ العجوز اخترقت سحب الدخان/ العجوز يعدل جلسته/ تبدى له وجهها أحمر فالحركية متسلسلة بين بداية عادية لوصف عجوزين امتدادا للحظة متأزمة ثم وصولا الى نهاية ما تقدم جمالية معينة في هذه الحياة لا تخلو من الفرح والأمل
والزمن في القصة هو المساء، حيث الشمس ·اغمضت آخر اجفانها فالعجوزان من الناحية العمرية في زمنية الوقوف على عتبة المغيب، لذلك يجيء الزمن الذي يتلفح به المكان مستلا من المغيب، وهذا الزمن هو أهم اشكاليات القص عند الجبيري
وايضا المكان· يتسلم لزفرات الغروب مشبعا بأجواء القرية حيث البيت الصغير، والهواء الجبلي اللطيف وأوكار الطيور، وجحور الدجاج اشياء كثيرة أخرى تجسد مكانية القرية المألوفة المتوصدة بشكل واسع لدى التكنيك السردي عند الجبيري، اذ لا يوجد أية غرائبية في توصيف المكان لكونه عاديا، لكن الاحتفال به في مستويات تفاصيله الدقيقة العادية المتناهية في الالفة هو ما يعمق من بنية القص الجديد المتفاعل مع جماليات العادي المباشر
والعادي المباشر يصبح جماليا من خلال تكثيفه عن طريق الصور على نحو تكثيف الجمل بواسطة التشخيص والتجسيد والتريد والتصوير: مساء صغير/ الشمس اغمضت آخر اجفانها/ البيت الصغير والقرية مستسلمين لزفرات الغروب/ الدخان يختال معربدا بخيوط من السعال والاختناق/ الهدوء يلف ساحة المنزل/ اللبن يأتي بلون الصباح/ اندفع الهواء هزيلا/ الوجه معطر بكدح النهار وبقايا الدخان
هذه سياحة في نص هو نموذج على ما قلته بشكل عام عن المجموعة، وهو نموذج يفضي الى كتابة سردية يشكل فيها الغياب الذي يفترض ان يستحضر من خلال القراءة اكثر مما يحضر في متن القصص نفسها، لكنني لم اقدم بكل تأكيد قراءة تأويلية، لأنني اقتصرت على مسألة توضيح بعض اشكاليات السرد الهيكلية، وأهم رموزه الفاعلة في توليد بنى سردية متشابهة كتكنيك ومتباينة كرؤى وانجازات في المضامين


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved