رؤى وآفاق
الحياة بين البداوة والحضارة
جانبان للحياة تعاقب عليهما البشر، جانب البداوة وجانب الحضارة، فأيهما أفضل؟ لقد بدأت الحياة بالبداوة حيث السكن في الكوف ثم الخيام، فعاشت أجيال تلتها أجيال وهم في خفض من العيش ورخاء، يجدون السعادة في التنقل، ويرون الحياة في الحل والترحال، وقد كان عرب الجاهلية بدوا ينتقلون من مكان الى مكان، وهم الذين صنعوا المجد الأدبي للعرب، فأبدعوا في قول الشعر، وساعدهم تنقلهم على وصف الظعائن والاسترسال في الغزل، وقد كانت المقدمة الطللية في القصيدة العربية نتيجة حتمية لحياة الارتحال ومراقبة الشاعر للظاعنين، ولو أن الحياة العربية حياة استقرار ومدنية لتغير وجه القصيدة العربية، بل ان قصيدة الاستقرار قد يكون لها وجه آخر تختلف ملامحه عما ثبت للقصيدة العربية من عرف ساد بين الشعراء، وعُرف بعمود الشِّعر، ان عمود الشَّعر امتداد لعمود الشعر فالقصيدة العربية بدوية في بنائها، فحياة الترحال نجدها في كل بيت لامرىء القيس وطرفة وزهير ولبيد، كما نجدها في قصيدة جرير والأخطل والفرزدق، وقد تذمر ابونواس ومن سار في طريقه من بناء القصيدة العربية، التي بنيت على الحياة البدوية، وأراد للقصيدة العربية بناء جديدا قوامه الحضارة والمدنية وحياة بغداد، فدعا الى ذلك في شعره بالقول، ولكن القصيدة العربية ألفت نهج البداوة ففضلته وسارت في ركابه الى يومنا هذا
ان حياة التنقل التي ارتبطت بها حياة البداوة تلائم الانسان أكثر من حياة الاستقرار، فالتنقل مصحوب بالتغيير والبعد عن الملل، فالأسرة البدوية تعيش فصل الربيع في الروضات حيث الماء والكلأ والنسيم العليل والطيور المغردة، فالغذاء من الماشية والماء من قطر السماء، والهواء نقي لم تخالطه أبخرة مصانع، فإذا حل فصل الصيف وزحف القيظ على كل رطب، ولاذت الجنادب بالظل رحلت الأسرة الى مكان آخر، فتتخذ سكنا في ضاحية قرية، أو تنصب خيامها على ماء حتى ينكسر الحر ويعتدل الهواء، والأسرة البدوية في صيفها تعيش حياة جديدة فقد انتقلت من مكان الى مكان، واختلطت بأناس أخرين، فهي تتذوق طعما لحياة لم تألفه في الفصل الماضي على ما فيه من المتعة وطيب العيش، وفي فصل الصيف تعيش الاسرة في أمل جديد بقدوم غيث الوسمي في أوانه، فهي في تطلع واستشراف، فالآمال ممدودة أمامها، والرؤى منداحة في خيالها، فعندما يحل فصل الخريف تتجهز للرحيل، فإذا لاح أول برق شاقته واتجهت الى مظانه إننا لا نجافي الواقع اذا قلنا ان حياة البداوة حياة سياحة، وهي الملائمة لطبيعة الانسان وفطرته، أما الحياة الحضرية التي استحدثت أبراج الحمام سكنا فأغلقت الأبواب، وأوصدت النوافذ، فهي حياة ملل،وسأم، يفر منها الانسان الى حياته الأولى؛ حياة التنقل والترحال، والا فما معنى هذه الأفواج من السياح، وهم في البلاد الموصوفة بالمدنية والحضارة يفرون منها الى أماكن أخرى في العالم، ان السائح من المانيا أو أمريكا أو بريطانيا أو غيرها من بلاد المدنية يتطلع الى الخروج من شقته المعلقة بين السماء والأرض الى بلاد الله الواسعة في أفريقيا، حيث الغابات والطبيعة البكر، أو الى الصحراء، وقد يذهب الى شواطىء البحار، أو أماكن الغابرين في مصر واليونان، أو الى بلاد العجائب في الهند والصين، ان هدفه الأول التنقل والتغيير، ولا يهمه بعد ذلك ان كانت وجهته الى شيء مفيد أو غير مفيد، فهو يحن الى فطرته التي جبل عليها وهي حب الترحال والانتقال من مكان الى آخر
ان عمارة المدن في أكثر بلدان العالم مبنية على الربح السريع، ولم تبن على رغبات السكان، أو دراسة النفس البشرية، أما كليات العمارة والهندسة في الجامعات فهي في معزل عن حياة الناس، ولم تقدم لهم إلا الدراسات المحفوظة في الادراج ولذلك بقي الملل أخا شقيقا للشقة الجديدة ومن يسكن فيها
د عبدالعزيز بن محمد الفيصل


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved