مبدأ العِلِّية بين المثاليين والماديين
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
لخص الأستاذ هاني مندس مذاهب الفلاسفة المثاليين في العلية، فقرر أنهم ·لم ينكروا أو ينفوا كلية مفهوم السببية ،العلية، فهم يقرون بها ولكن أية سببية تلك التي يقولون بها؟ إنهم يحولونها الى مجرد عادة أو اطراد في الحدوث ،الغزالي وهيوم وغيرهما، أو الى ظاهرة قبلية مفطورة في العقل ،كانط، أو نتيجة للروح المطلق ،هيغل ،1
قال أبوعبدالرحمن: مفهوم العلية لغة، ولدى القائلين بها: أن تكون فاعلة منتجة؛ فمن لم يقل بهذا المفهوم فليس قائلا بالعلة
والاقتران عند القائلين بالعلة ليس اقترانا آنيا حاليا،وإنما هو سبق العلة للمعلول، واستجابة الحدث للعلة إذا تخلفت الموانع
واطراد حدوث المعلول بعد العلة - إذا وجدت المقتضيات، وتختلف الموانع - دليل على ان ما فطر الله عليه العقل أداة معرفة صحيحة، ودليل على صدق معتقد الموحدين: في إيمانهم بأن ما في الطبيعة لا ينافي ما في الغريزة العقلية؛ لأن العقل والطبيعة في عمومها هما خلقه، وقد خلق الله العقل ليعرف ما أذن الله بمعرفته من الأنفس والآفاق
وما لم يعرف العقل علته من الأحداث لا ينتهي فيه العقل الى ان بعض الأحداث يكون بلا علل، بل يزداد إيمانه بوجود العلة الفاعلة بإذن الله، والسبب المنتج إلا أنه لم يعلمها تعيينا
وليس كل منكر للعلة فخلافه مجرد خلاف لفظي، وليس كل منكر للعلل يكون مقرا بالعلة الكافية، وهي مشيئة الله وقدرته
ويمثل متكلمي الأشاعرة أبوحامد الغزالي أدى به التقصير في النظر الى التورع من نسبة الفعل والتأثير الى مخلوق؛ فجعل العلة والمعلول حدثين مقترنين لا يؤثر أحدهما في الآخر، فصدم العقل المفطور على مبدأ العلية، وصدم العقل الذي لا يتصور اقتران المسبوق بالسابق مباشرة عند تخلف الموانع إلا بالتأثير والفعل وفر من سعة شرعية لا من حرج شرعي؛ لأن في سعة الشريعة ان الله يخلق العلل الفاعلة المؤثرة بإذنه وإقداره، ثم كل شيء معلول بخلق الله وتدبيره وقدرته ومشيئته
ولخص الأستاذ مندس مذهب الغزالي من كتابه تهافت الفلاسفة بقوله: ·ينكر الغزالي في كتابه ·تهافت الفلاسفة مقولة السببية عندما يرفض وجود العلة الفاعلة للأسباب في الموجودات، ويحولها الى مجرد الاقتران في الحدوث؛ فالأسباب عند الغزالي كما جاءت في المسألة السابعة عشرة ،2 من كتابه المذكور: ظواهر تقارن المسببات، وليست علتها أي انه ينكر هنا وجود علل محددة تنتج عنها الظواهر وهو عندما يقف عند حدود وصف الظواهر يُرجع القانون العلمي الملموس الى تصور مثالي خارج عن طبيعة الأشياء إنه يحوله الى مجرد عادة ويجب أن نلاحظ هنا ان رأيه في هذا الصدد يشبه رأي هيوم الى حد بعيد
يقول الغزالي في المسألة السابعة عشرة من كتابه المذكور: ·الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين: ليس هذا ذاك، ولاذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمنا لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمنا ،3 لنفي الآخر فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم ،4 الآخر
وهكذا يحول الغزالي كل الظواهر في مختلف المجالات ومستويات الواقع المادية غير العضوية والعضوية والاجتماعية الى مجرد الاقتران أي انه ينكر علاقة السببية، والضرورة، وطبيعة الأشياء، ومبدأ الهوية، فهو يقول: ·إن ائتلاف الروح بالقوة المدركة والمحركة في نطف الحيوانات ليس يتولد من الطبائع المحصورة في الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة كما أنه ينكر بشدة وجود الأشياء الموضوعي، والعلاقات الناشئة بينها بشكل مستقل عن الذهن أو أية قوى غيبية أخرى، فهل يقول: ·وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل ،5
قال أبوعبدالرحمن: سيؤتي أبوحامد من أبواب كثيرة يأتيه النحاة بمثل باء السببية، ويأتيه الفقهاء بجملة أسباب للأحكام، ويأتيه الأصوليون بجملة علل اقتضت تعدية الأحكام الى محالها، ويأتيه المفسرون والمحدثون والنحاة بمثل كي، ولأجل، ولأنه، ولئلا إلخ، ويريه العاديون مدية الجزار تقتل البهيمة، وعصا الجلاد تحدث الوجع
وعلى الرغم من وقوع أبي حامد في السفسطة هاهنا إلا ان دافعه إيماني سيؤجر عليه إن شاء الله وإن أخطأ وبيان ذلك أن أبا حامد يشفق من القول بالعلل الفاعلة مخافة أمرين:
أولهما: أن يكون أحد فعَّال غير الله
وثانيهما: أن يضعف الايمان بما أجراه الله للمرسلين من الخوارق
والأمران أسهل مما تخوف منه أبو حامد، فالله سبحانه يفعل بيده مباشرة جل جلاله، ويفعل بكلمة ·كن ، ويفعل بإقداره بعض مخلوقاته؛ فيكون سبحانه خالق الخلق وما يفعلون ولا يكون في الكون إلا ما أذن به بمقتضى قدرته أو إقداره وإقداره تعدية من قدرته
والعقلاء السويون القائلون: مدية الجزار سبب وعلة موت البهيمة: لا يقولون: هذه العلة الكافية، بل يقولون: كل علة معلولة بمشيئة الخالق وقدرته ولو أراد سبحانه حياة البهيمة لكانت مدية الجزار كنار إبراهيم
والعقلاء السويون يقولون بالعلل المخلوقة الفاعلة مع إيمانهم بما صح به الخبر من الخوارق؛ لأن الله سبحانه في فعله الخوارق يعطل العلل المخلوقة، أو يحجب فعلها بموانع
والعقلاء السويون يؤمنون بأن حدوث المعلول من العلة اقتران، وعادة، وظاهرة وهو إيمان بجزء من الحقيقة لا يصدهم عن الإيمان ببقية الحقيقة، وهي ان الاقتران اقتران معلول بعلة، وأن العادة عادة فعل من علة فاعلة، وان الظاهرة ظاهرة حدوث فعل من فاعل بالشرط المعروف، وهو وجود المقتضي وتخلف المانع
وليس بصحيح أن أبا حامد ينكر مبدأ الهوية إذ أنكر تأثير الطبائع، وإنتاج العلل؛ لأن قوله بالاقتران يعني اقتران هويتين متمايزتين
وهو لا ينكر الضرورة وطبائع الأشياء بإطلاق، وإنما يقصر الضرورة على قدرة الله ومشيئته، ويلغي فعل الطبائع بقدرة الله ومشيئته وما قاله ابوحامد هو بعض الحقيقة، ويبقى بعد ذلك الايمان بأن لله سنة لا تبديل لها ولا تحويل إلا من قبل خالقها سبحانه ومبنى السنة على الضرورات المخلوقة، والعلل الفاعلة المخلوقة
ولقد حدد الأستاذ مندس لقاء الغزالي بالمثاليين بقوله: ·ويذكرنا الغزالي هنا بأفلاطون الذي جعل من الأشياء والموجودات مجرد ظلال باهتة لعالم المثل ولكن ما يميزه عن أفلاطون في هذه الناحية بأنه ،6 جعل هذه الظلال ليست مجرد ظلال باهتة للصور المتعالية فحسب، بل هي أيضا ظلال متغيرة لا بقوة أو صفة تخص هذه الأشياء ذاتها، بل تبعا لإرادة الله الذي يستطيع ان يغيرها متى شاء!
أما ما يميز الغزالي عن هيوم في تفسيره لمصدر ظاهرة الاقتران بين العلة والمعلول: فهو أن موقف الغزالي من هذه المسألة هو موقف المثالية الموضوعية شأنه بذلك شأن أفلاطون وهيغل أي أنه يرجع العلاقة بين العلة والمعلول الى كائن أسمى يوجد خارج الأشياء والعالم شاءت إرادته أن تكون هذه الظاهرة مصاحبة لتلك الظاهرة التي صاحبت وقوعها
بينما ·كما نلاحظ أن هيوم يتهكم على مثل هذا التصور عموما حين يقول: · إذا رأيت بعينيك شيئا: فلا تقل: إن حاسة البصر هي التي أحدثت ما قد حدث فيك من إحساس بصري، بل قل إنها ارادة الله القادر على كل شيء، والخالق لكل شيء!! ولكنه يفسر العلاقة بين العلة والمعلول ·أي مصدر الاقتران بينهما بأنه يعود الى طبيعة الانسان في تكوين عاداته، فضرورة الحدوث أو العلاقة ليست ناجمة عن طبيعة ·س ولا من طبيعة ·ص ، بل من طبيعة الانسان في تكوين عاداته
وهكذا عندما يعارض هيوم موقف المثالية الموضوعية فإنه يقف في نفس الوقت موقف المثالية الذاتية ،7
قال أبوعبدالرحمن: تكثر المجانية في كلام كثير من المعاصرين ومن المجانية هاهنا الزعم بأن الغزالي وأفلاطون يلتقيان في هذه المسألة، ولست والله أعلم أدنى علاقة بين نظرية المثل وفلسفة الغزالي في مبدأ العلة! وياليت الكاتب الفاضل أتحفنا بذكر وجه اللقاء، ولم يكتف بمجرد الدعوى
والمتعلق بنظرية المعرفة من مثل أفلاطون أن معرفتنا ظلال للحقيقة، وعلم ببعض الظواهر، وان المعرفة الكاملة عند انعتاق الروح من الجسد وأبوحامد لم يقل بهذا في هذا الموضع؛ لأن العلة في مشاهدته، ولكنه يسمى مشاهدته عادة واقترانا وظاهرة فراراً من القول بفاعل غير الله وفرارا من القول بنفي خوارق الرسل
وليس في فلسفة الغزالي عن العلية صور متعالية، وظلال باهتة إنما عنده احداث مشاهدة تتفاعل فيما بينها بإرادة الخالق لا بخاصية فيها وقد أسلفت بيان الباعث لفلسفته هذه مع بيان خطئه
قال أبوعبدالرحمن: وأوجز الفرق بين أبي حامد المؤمن وديفيد هيوم الملحد في نقطة واحدة، وهي ان الغزالي لم ينكر فاعلية العلية بإطلاق، وإنما قال بالعلية الكافية وحسب، وهي قدرة الله ومشيئته أما هيوم فقد نفى العلية بإطلاق
وفي كلام هيوم: أنه لا علية بل عادة، وهي عادة كونها الانسان!! قال أبوعبدالرحمن: هذا لا يعقل ألبتة؛ لأن فاعلية العلة ضرورة فطرية في العقل، ومشاهدة لم تنخرم خارج الذات المدركة وتكوين الإنسان لعاداته لا يحقق عادة مطردة إلا بتكوين أسباب ومسببات - بصيغة اسم المفعول-؛ فيكون تكرار ذلك عادة وتكوين الإنسان للعادة ، التي هي أسباب تقترن بمسبباتها إنما هو في الأفعال البشرية، ولكن ما هو دخل الفعل الإنساني في حقائق الكون المخلوقة قبله، المطردة أسبابها ومسبباتها بغنى عن وجوده وإدراكه؟!
ويرى الأستاذ هاني مندس أن رد ابن رشد على الغزالي دفاع عن فلسفة أرسطو قال ·والعلل كما يفهمها ابن رشد هي من حيث الجوهر نفس العلل التي قال بها أرسطو، وهذه العلل هي:
1- العلة المادية التي توجد بالقوة، وفي حالة انتقال بوصفها قابلية اتخاذ الصورة، ولا يطلق عليها اسم العلية إلا على سبيل التمثيل
2- العلة الصورية، وهي التحقق الفعلي لتلك القابلية
3- العلة الفاعلة، وهي العلة الصورية منظورا إليها من اعتبار الفاعل الذي ينظر اليها من ناحية التحقق
4- العلة الغائية، وهي العلة الصورية منظورا إليها من ناحية ما يراد تحقيقه من الهيولي
وقد تجلت أهمية أرسطو في هذا المجال، بأنه عبر الهوة التي تفصل بين المثل ،التي كانت وحدها مواضيع العلم الحق عند أفلاطون، وبين عالم الظواهر الذي كان يقع بعيدا عن متناول العلم
فقد توصل أرسطو الى الرأي القائل: بأن المثال ليس له وجود مستقل، وأن ما يوجد حقا هو الشيء المفرد المحسوس الذي هو اتحاد بين المادة والشكل وعلى هذا فالحقيقة الواقعية الوحيدة لديه هي ·شكل في مادة ؛ ذلك لأن الشكل إذا لم يكن له وجود مستقل، تتعذر معرفته إلا بدراسة الشيء الملموس ،8
قال أبوعبدالرحمن: البداهة والارتجال وجود بالقوة في أبي الطيب المتنبي مثلا؛ فإذا ارتجل قصيدة بادهة صار ذلك الوجود وجودا بالفعل وإن عجز عُلم ان ذلك لمانع
وأنت تقول في ابتغاء التعليل: لماذا وجدت البداهة عند أبي الطيب بالقوة، ولماذا ظهرت بداهته في الفعل، ولماذا تخلفت في الفعل على الرغم من الوجود بالقوة؟!
إذن ما سمي بالعلة المادية في هذا السياق ليس له صفة العلة المادية، وإنما هو موضوع للتعليل ومثل ذلك ما سمي في هذا السياق بالعلة الصورية
وسياق العلة الثالثة سياق أسلوب أعجمي غير مبين ويغني عنها العلم بأن العلة الفاعلة ما أحدثت معلولها عند تخلف المانع وكون العلة تامة، وأنها ما أحدثت معلولها عند تخلف المانع ووجود بقية المقتضيات إذا كانت جزء علة
والعلة الغائية هي العلة الفاعلة، وإنما الفرق في كون الثانية أنجزت مفعولها، وكون مفعول الأولى لا يزال منتظرا، وقد عرف بالتجربة - عند تخلف المانع- أنها تحقق مفعولها الغائي المنتظر لا محالة
أما فلسفة المثل والظواهر فليست من صميم البحث عن العلة لدى الغزالي وابن رشد، والعلاقة بينهما معدومة؛ فلا أتناول هذه الفلسفة في هذه المناسبة، والله المستعان
حواشي:
،1 مجلة دراسات عربية /س7/ع7/ مايو سنة 1971م ص52
،2 في الأصل: عشر
،3 في الأصل: متضمن
،4 في الأصل: على
،5 مجلة دراسات عربية ص53-54
،6 الأسلوب الفصيح بحذف الباء
،7 دراسات عربية ص54
،8 دراسات عربية ص54-55


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved