أتنظير، أم تضليل؟
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
كتيب وزن الشعر الحر في أنشودة المطر لبدر شاكر السياب تأليف الصادق شرف من الكتيبات التي تستهويك بخداع العناوين؛ إذ تظن أن هذا الحجم الصغير في موضوع محدد سيأتي بالخلاصة، ويعفيك من شهوة الكلام التي يتميز بها جمهور المعاصرين,, ولكن المفاجأة أثبتت أن الهذر تَطَبُّعٌ لدى أكثر المعاصرين,, وكانوا يعيبون على مثل الجاحظ وأبي حيان التوحيدي والحصري الاستطراد الأدبي من موضوع إلى موضوع,, كما يعيبون على مثل شيخ الإسلام ابن تيمية استطرادهم العلمي,, والواقع ان استطراد أولئك من ممتع إلى أمتع، ومن مفيد إلى ما هو أعظم فائدة,,واستطراد أمثال الصادق شرف انتقال من هذر إلى هذر,, تجد اقتباسات من كتب خواجية وعربية لايقتضيها مقتضيات فكرية، أو تداعيات نفسية,, وإنما هو الفرح بكلمة مجدفة، أو كلمة ذات شعار، أو كلمة غريبة الصياغة والفكرة!!,, أما الارتباط بالموضوع وهو وزن الشعر الحر في أنشودة المطر فلا يوجد ألبتة، وإنما تستخرج من هذا الكتيب مقالة من بضع صفحات تتعلق بموضوع عنوان الكتاب,, وكأن الكاتب حريص على أن ينقل من موسوعة المصطلح النقدي تعريب عبدالواحد لؤلؤة، وقضايا معاصرة لحسن حنفي، والفن والحس لميشال ديرميه,, ينقل عن هذه المصادر كيفما اتفق ليظل كتيبه حداثياً وحسب,
والعجيب أن شواهد الشعر من الشاعر التونسي أبو وجدان أكثر من شواهد الشعر للسياب موضوع الدراسة!!
قال أبو عبدالرحمن: وبالتنازل عن مطالبة الكاتب بالموضوع الذي حدده لنفسه من عنوان الكتاب، وبالتنازل عن مطالبته بالأصالة؛ بأن تكون له شخصيته الفكرية والأدبية، وألّا يكون مجرد متذوق في النقل عن الآخرين,, بهذين التنازلين لا أجد بأساً في مناقشة بعض التنظير الغائم الذي استله تذوقاً من أعمال نزار قباني,, ولعل قدرته الفكرية والنقدية في الاختيار من أعمال الآخرين أظهر وأسمى من قدرته هو في التنظير!,
أخذ من كتيب الكتابة عمل انقلابي لنزار قباني هذه العناصر التنظيرية واكتفى منها بما يتعلق بالشعر :
1- أن تكون القصيدة فريدة: الشرط الأساسي في كل كتابة جديدة هو الشرط الانقلابي، وهو شرط لا يمكن التساهل فيه أو المساومة عليه,, وبغير هذا الشرط تغدو الكتابة تأليفاً لما سبق تأليفه، وشرحاً لما انتهى شرحه، ومعرفة بما سبق معرفته,, الكتابة الحقيقة هي نقيض النسخ، ونقيض النقل، ونقيض المحاكاة الزنكوغرافية أو الطباعية؛ فالقصيدة الجيدة هي النسخة الأولى التي ليس لها نسخة ثانية سابقة لها أو لاحقة بها,, يعني أنها زمان وحيد هارب من كل الأزمنة,, ووقت خصوصي منفصل كلياً عن الوقت العام,
القصائد الرديئة هي القصائد التي تعجز عن تكوين زمانها الخصوصي، فتصب في الزمن العام، وتضيع كما تضيع مياه النهر في البحر الكبير ,
2- وأن يكون مع ذلك الدهشة: إن الشعراء في عالمنا العربي هم بعدد حبات الرمل في الصحراء العربية، ولكن الذين استطاعوا أن يخرجوا من المألوف الشعري إلى اللامألوف، ويطلقوا في السماء عصافير الدهشة، ويقيموا للشعر جمهورية لا تشبه بقية الجمهوريات: يعدون على الأصابع,
ويظل الكاتب الانقلابي يثير الدهشة,, حتى تصبح الدهشة عادة ثانية لا تثير حماس الناس ولا خيالهم؛ فيبدؤون في البحث عن انقلاب آخر يحرك طفولتهم، ويرميهم في بحر الانبهار والمفاجآت من جديد ,
3- وأن يكون سبيل ذلك الانفصال عن الجذور: الشرط الانقلابي يعني خروج الكتابة والكاتب على سلطة الماضي بكل أنواعها الأبوية، والعائلية، والقبلية، وإعلان العصيان على الصيغ والأشكال الأدبية التي أخذت بحكم مرور الزمن شكل القدر أو شكل الوثن,
وبالشرط الانقلابي نعني إلغاء جميع حلقات الذكر التي كان ينظمها دراويش الكلمة ومتعهدو حفلات الأدب ويدورون فيها حول ضريح لا يوجد فيه أحد,
ومهمة الكاتب الانقلابي صعبة ودقيقة؛ لأنها تتعلق بإلغاء تنظيم قائم له جذوره الدستورية، والتاريخية، والقومية، واللغوية، وإعلان تنظيم والاعتراف بدستوريته 1 ,
قال أبو عبدالرحمن: يخشى أن ترتد حداثة الشعر فكرياً وفنياً بمثل هذا التنظير الغائم بأقلام رواده؛ لأن هذا التنظير مزج بالريح، ودعوة إلى مستحيل؛ لأنه معدوم,, وبيان وجه العدمية أن الشاعر والمنظر لا يستطيع تغيير خلق الله، ولا إبدال سنته الكونية,, إنه لا يغير فطرة الحاسة الجمالية، والإدراك المعرفي، والقيم المنطقية والخلقية لدى البشر,, إن القصيدة موضوع لإحساس الذات المتلقية,, موضوع لإدراكها العقلي,, موضوع لذوقها الجمالي والخلقي,, والقصيدة الموضوع ليس لها صفة الثبات على النمط,, لا شك في هذا,, ولكن ليس لها أيضاً صفة عدم الثبات بإطلاق؛ لأن في الذات المدركة والمتذوقة ثوابت,, فأما الفكر والأخلاق فلا لبس في ثوابتهما,, وأما الحس الجمالي الذي هو في تطور دائم فلا يعني أن الحس الجمالي في نفي دائم لنفس الحس الجمالي,, بحيث أن ما كان اليوم جميلاً يكون قبيحاً غداً,, كلا، وإنما الحس الجمالي ينوع الحس الجمالي ويثريه من جهتين:
أولاهما: التطور من جميل إلى أجمل؛ فيبقى للسابق نسبته الجمالية,
وأخراهما: التطور من أجمل إلى مجرد جميل، ولكن ذلك الجميل جديد، ولكل جديد لذة,, والانعتاق من الرتابة، والسأم من النمط قيمةً جمالية، ولكن الجديد الجميل لا ينفي القديم الأجمل، بل يبقى الأجمل قيمةً جمالية تاريخية، ويبقى ايضاً قيمة جمالية راهنة؛ لأن لكل قديم وحشة كما أن لكل جديد لذة,
إن الأستاذ الصادق شرف في دور الانفعالي؛ إذ ينقل بإعجاب هراء نزارياً دون محاكمة,, وإذا كان من المسلم به أنه يُبعث على رأس كل قرن مجدد يجدد للأمة ما اندرس من دينها فلا أستبعد أن تكون القصيدة التي ليس لها نسخة ثانية أقل من نبوغ المجددين على مدار القرون,, إن القصيدة الوحيدة مطلب بلا ريب، ولكن ابتغاء قصر الشعر على القصيدة الفريدة؛ بأن يكون مدار الحركة الشعرية انتقالاً من نسخة فريدة إلى نسخة فريدة مطلب متعذر، وليس متعسراً وحسب,, وإنما سنة الله الكونية أن يكون التجديد جزئياً في أعمال الشعراء؛ لأن ذلك منتهى قدرتهم، ويكون من مجموع الجزئي الجديد الكلي المتجدد الذي تتألف منه مدرسة,
وليس الشعراء محصورين في حالتي: إما تكوين القصيدة زمانها الخصوصي، وإما ضياعها في الزمن العام!!,, بل التجديد كما هي سنة الله في الفكر والإبداع أن ينهض الشاعر بإبداع يعني الزمن الخصوصي بأدوات من الزمن العام,, وكل المتغيرات لا تكون طفرة، بل بالتدريج والتداخل,
والمألوف واللامألوف ليسا قيمتين، وإنما هما ظاهرتان تاريخيتان قديم، وجديد,, وهما موضوعان للقيم؛ فيكون اللامألوف الشعري قيمة جمالية إذا استجابت له حاسة الجمال لدى الأجيال الواعية المثقفة؛ فيعلو ذوقها بعشق الأجمل الجديد من القيم الجمالية الثابتة في الذات والموضوع معاً,, وقد أسلفت أن التطور في الإحساس بالأجمل، والإحساس بالجميل الجديد بمعيار دفع السأم,, أما درجات الجمال فهي من الثوابت في الذوات، ويوجد في الموضوع مواصفات الذات المتذوقة,
والدهشة التي جعلها نزار قباني قيمة ليست قيمة في ذاتها، وإنما هي حالة ذاتية تعني الحيرة والذهول أمام جمال صارخ 2 استجابت له ذات دون أن تجد راحة للتأمل,,وتكون الدهشة أيضاً من القبح,
ولاتعني الدهشة أن يكون الجميل غير مألوف بالضرورة، بل قد يكون نموذجاً آخر لنموذج سابق أقل جاذبية، وقد يكون المتلقي خالي الذهن من نموذج سابق أكثر دهشة، وقد تكون الدهشة جزئية تتعلق بعنصر واحد من عناصر العمل الابداعي,
وذلك العصيان، والأشكال، والصيغ مما ذكره نزار هراء آخر؛ فالشعر من الفنون الجميلة، وهو فن قولي، وكل قول له هويته التي هي هوية الجماهير من كونهم عرباً فصحاء، أو عرباً عواماً، أو فرساً، أو تركاً، أو إنجليزاً,, والصيغ كحروف الهجاء الفرعية والأصلية محصورة,, فأي انقلاب يحقق شعراً ليس بالعربية الفصحى، ولا بالعامية، ولا بالتركية,, إلخ,, وبصيغ لا توجد في لغة الجماهير المتلقية؟!,
إن في الشعر ثوابت وفقاً للغته؛ فلكي يكون شعراً عربياً فصيحاً لا بد من مفردته المأثورة، وأوزان مفرداته المأثورة، وقوانين تركيبه من علم النحو,
وإنما التجديد ولا أقول الانقلاب في الصيغ الجمالية والبلاغية، واستحداث عناصر للدلالة بالتداعيات الفكرية والنفسية، وبالتضمن واللزوم، وبتوسع دلالة الكناية كما في قصيدة سوق القرية,, وهذا التجديد الضروري المبارك لا أسميه انقلاباً؛ لأنه ليس على أنقاض الثوابت اللغوية، وليس نفياً للقيم الجمالية التاريخية، وإنما هو إضافة,, اي نمو لغوي،وثراء إبداعي,
أما الانقلابية فخيال أطفال,, ليس في القدر الخائب للفرد أن يستأنف حياة الأمة من جديدٍ لغةً وفكراً وحساً جمالياً,
إن النموذج الحداثي الإبداعي في تدفق دائماً بين مد وجزر,, أما التنظير النقدي للأدب الحداثي سواء أكان بلسان نزار، أم بلسان نقيضه أدونيس فسفسطة ومكابرة وفحيح مخدَّرين؛ ولهذا فهو لا يرتاد أي منطلقات رحبة للنموذج الابداعي,, والتنظير الادبي للنموذج الإبداعي الحداثي هو ما كان تالياً للنموذج الإبداعي وليس سابقاً له,, يدرسه بوعي من خلال معطيات العلم والفكر والنظريات الجمالية، ومن خلال ذائقة الجماهير مصنفين على فئات: من الفطري الساذج، إلى العالم البليد الحس، إلى المرهف الحس ذي الثقافة العالية المتنوعة,
والإبداع له وصف لغوي بأنه جديد,, أما قيمة هذا الجديد بحيث يكون إبداعاً معتبراً فيحتاج إلى وصف آخر غير الجدة، وهو أن يكون مزكى من القيم كالقيمة الجمالية,
وأورد الصادق شرف هذه الكلمة للدكتور محمد مصطفى هدارة: الشكل الجديد,, أي الشعر الحر يقوم على وحدة التفعيلة دون التزام للنظام الموسيقي للبحور المعروفة كما أن شعراء القصيدة الحرة يرون أن موسيقى الشعر ينبغي أن تكون نابغة من الألفاظ ذاتها، مرتبطة بمدلولاتها، كما ينبغي أن تكون انعكاساً للحالات الانفعالية عند الشاعر 3 ,, ثم علق بقوله:الينبغية لاتكون إلا في العلوم الصحيحة، أما الشعر فهو يتبع حالما يتغير نفسه,, بحيث لا تُقيِّده لفظة، ولا مدلولها، ولا انعكاس حالة نفسية أو مرضية بقدر ما يتمادى في ذلك الانسياب التلقائي,, لا يحده تأطير ناقد أو حكم قانون نظري 4 ,
قال أبو عبدالرحمن: وهذه ورطة ثانية من ورطات المنظرين الحداثيين كأنهم خارج الكون الذي خلقه ربهم، وكأن هناك كوناً منفلتاً من قوانين تضبطه؛ فقالوا: ليس في الشعر: ينبغي، ولا ينبغي,, وتلقف هذه الكلمة كل حدث غر، وكل متمعلم,
وإنما المؤاخذة لأمثال هدارة إذا وظف ينبغي ولا ينبغي لنمط جمالي معين يقسر الشاعر عليه,, أما إذا كان الأمر عن حالات جمالية جديدة أو تاريخية فلا ترصد مواصفاتها في الموضوع ووجودها في الذات إلا بهوية محددة بحيث يقال: إذا أريد مثل هذه الظاهرة الجمالية فينبغي كيت وكيت,
كذلك الشعر من الفنون الجميلة، وهو فن قولي، وله هوية أخصها الموسيقى,, وليس من حق المنظر أن يحجر واسعاً، ويحصر المواهب في عروض الخليل بن أحمد بمقولة: ينبغي ,, ولكن تعامله الصادق فكراً وجمالاً يحتم عليه أن يجعل العنصر الموسيقي هو ما ينبغي في الشعر,, وموسيقى الشعر أرحب من أعاريض العرب والعجم المأثورة,
قال أبو عبدالرحمن: وأما ما يتعلق بالسياب وبقصيدته أنشودة المطر فأتناوله في مناسبة قادمة إن شاء الله,
قال أبو عبدالرحمن: هذا الانقلاب إن كان على عمومه، وعلى حقيقة اللغة المعبرة عنه: فشأنه ما أسلفته,, وإن كان الانقلاب جزئياً، واللغة مجازية: فالمجال مجال تنظير وتأصيل، ولا تصلح اللغة المجازية لبناء النظريات والأصول,
حواشي:
،1 وزن الشعر الحر ص 41-43 عن الكتابة عمل انقلابي ص 7-8/ منشورات نزار بلبنان,
،2 انظر عن الدهشة كتابي مبادىء في نظرية الشعر والجمال 1/452-453 في سياق كلامي عن المصطلحات الجمالية,
،3 وزن الشعر الحر ص 112 عن الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر للدكتور عبدالحميد حيدة/ مؤسسة نوفل للنشر,
،4 وزن الشعر ص 112 ]حاشية[,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved