سمات الأخذ بمبدأ العلِية
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
لخص الأستاذ هاني مندس الأخذ بمبدأ العلية في التالي
،1- العلم والتطبيق أساس اليقين: قال هانىء: أي أن معرفتنا بالعلل ليست نابعة ،1 من مجرد ملاحظة الظواهر، واستنتاج الروابط والعلاقات المضطردة,, بل إن التطبيق العملي الإنساني يقوم باكتشاف العلية، والتحقق منها في نفس الوقت,, حينما يتدخل العمل الإنساني لاستحداث أشياء، أو لعلاج عوارض الأمراض؛ ففي مجال الطب على وجه التحديد كان ابن رشد قد قام بشرح الكتب الآتية لجالينوس: تلخيص كتاب القوى الطبيعية، وتلخيص كتاب العلل والأعراض، وتلخيص كتاب المزاج، وتلخيص كتاب الأدوية المفردة، وأخيراً تلخيص كتاب الاسطقسات,, ففي مجال الطب لا يقف الأمر بالنسبة للعلاج إلى ،2 اكتشاف المرض من خلال المعرفة النظرية بمبادىء علم وظائف الأعضاء والتشريح مهما تكن لازمة لذلك فحسب؛ فلا بد من التدخل بالعقاقير، أو بالجراحة؛ لتصحيح الخلل، وإعادة العضو المصاب إلى حالته السوية,, ويصبح التطبيق في هذا المجال وسيلة ضرورية لمعرفة العلل، وللتحقق التجريبي من صواب إدراكها,
إن ابن رشد يؤكد أكثر من أرسطو على الجانب التطبيقي في مفهوم العلية,, والجدير بالذكر ان إنجلز كان قد أكد أيضاً في كتابه Dialectic of Nature ]طبيعة المنطق وأصوله[ عندما تحدث عن مفهوم العلية في التطبيق العملي: أن سطع الأرض والمناخ والنبات والحيوان والكائنات البشرية نفسها تغيرت بشكل غير محدود، وكل ذلك نتيجة لنشاط الإنسان وعمله,, وهذا مما يدل على الأهمية العلمية المعاصرة لتأكيد ابن رشد على الجانب التطبيقي في مفهوم العلية,, بينماالعلية عند أرسطو نابعة من طبيعة العلاقة بين الهيولي والصورة ،3 ,
قال أبو عبدالرحمن: ها هنا خلط بين حتميةالعلية وجوداً، والقول بها تعييناً,, وبيان ذلك أن تفسير كل حدث بعلة أنتجته ضرورة حتمية في التصور والوجود,, وكل علة بعد ذلك هي في ذاتها حدث آخر حتى ينتهي الأمر إلى علة كافية لا تُلتمس وراءها علة، وهي قدرة وإرادة الخالق فاطر السماوات والأرض سبحانه,, وموجز هذه الحتمية: أن لكل حدث علة,, واليقين ها هنا يفتقر إلى العلم والتطبيق من جهة أن معرفة البشر منذ خلقهم الله إلى هذا اليوم لم تُبد حدثاً يُقنع العقل أنه لا علة له,, أما تعيين العلة، وتحديدها، وتكييفها، أو استكناهها من آثارها: فلا يكون ذلك إلا بتطبيق عملي في المعارف المشهورة التي هي من علم البشر,
وما نقله عن إنجلز غير مسلم له بإطلاق، وإنما ذلك محصور فيما يتأثر بفعل الإنسان كاشتداد الحرارة، وتلوث البيئة، وانقراض بعض الحيوان في بعض أجزاء المعمورة، وقد أخبر الله عن مثل هذا بقوله سبحانه: ،ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ]سورة الروم/ 41[,
قال أبو عبدالرحمن: إذن أعود إلى حيث بدأ مندس؛ فأقول: العلم بحتمية العلية نابع من غريزة العقل الفطرية، وليس من مجرد ملاحظة الظواهر,, كما أن البحث عن تعيين العلة يبدأ بملاحظة الظواهر، واستنتاج الروابط,, إلخ,, وينتهي البحث بالتطبيق العملي,
ولم يورد الكاتب الفاضل شيئاً مما ذكره عند تأكيد ابن رشد على الجانب التطبيقي، ولم يعقد المقارنة بين أرسطو وابن رشد، لنعلم الفرق بينهما في القول بالعلية,, مع أن ابن رشد أرسطي من ناصيته إلى قدمه، ولم يشرح دعوى قصر العلية على العلاقة بين الصورة والهيولي,
،2- العلاقة بين المقدمات والنتائج:
قل: والمقصود بذلك الطريقة التي كان ينظر منها ابن رشد إلى العلية، فهو لا يضع المقدمات أو الافتراض ثم يأتي بعد ذلك بفلسفة تنسجم مع هذه المقدمات؛ لأن هذا من شأنه أن يحول الفلسفة، والبناء الفلسفي، والمعالجة العلمية إلى سفسطة لفظية لا تعطينا شيئاً جديداً,, بل تكون عبارة عن تحصيل حاصل ما قد سبق ذكره في المقدمات، وهذا من شأنه أيضاً أن يقتل الروح العلمي,
إن ابن رشد بهذا المعنى يضع على حد تعبيره مرحلة العمل سابقة على مرحلة النظر؛ ذلك لأن التطبيق العملي هو الذي يكشف لنا صدق مقدماتنا وافتراضاتنا، بل ويضيف عليها، وقد يغير أحياناً من منطلقاتنا ومقدماتنا ويغنيها في أحيان أخرى,, وطريقة ابن رشد هذه تذكرنا بالنهج العلمي الصحيح الذي يقوم على الافتراض، ثم التحقق التجريبي، فالتنظيم النظري ،4 ,
قال أبو عبدالرحمن: لم يأت الكاتب الفاضل بنص حرفي لابن رشد ينسجم مع تحليله,, ثم لابد من الفرق بين علة معينة قد تم العلم بها، وبين علة لم يعلم تعيينها بعد، ويراد البحث عنها؛ فالعلة التي تم كشفها وتعيينها تنظم بمقدمات ونتائج,, والمطالبة بتجريب كل مجرب دائماً سفه,,وأما العلة التي يراد اكتشافها وتعيينها فلا سبيل لها إلا بالتطبيق العملي إذا كانت في حيز التجربة البشرية,, وليس بصحيح ها هنا أن مرحلة العمل تسبق مرحلةا لنظر، بل هناك علم نظري مسبق، ثم افتراضات، ثم تحققات تجريبية، ثم تنظيم نظري لحصيلة التجربة,
،3- نواميس الموجودات والكليات العقلية شيئاً واحداً ،5 :
قال مندس: كان السائد عن طبيعة العلاقة بين الموجودات والكليات العقلية أن وجود الأسباب في العالم بديهية لا تقبل المناقشة، ولا تحتاج إلى تبرير,, وتتجلى أهمية ابن رشد في هذا المجال بأنه قام بتبرير وجود العلية من خلال رده على الذين أنكروا وجودها في الفكر الإسلامي أمثال الغزالي والمتكلمين عموماً ،6 ,, ومن هنا كن تبريره لوجود الأسباب عندمانظر إليها وكأنها شيء لا ينفصل عن طبيعة العقل نفسه، وذلك من أجل تبريرها أما بيئة دينية متعصبة,, والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها,, وقوله: من رفع الأسباب فقد رفع العقل ؛ فابن رشد يؤكد بشدة هنا على أن مسألة العلية عنده لا ترجع إلى الضرورة المنطقية، بل هي مسألة وجود الأشياء نفسها عندما جعل العقل جزءاً لا يتجزأ من طبيعة النظام والسببية في الكون ،7 ,
قال أبو عبدالرحمن: نعم السائد بداهة الأسباب في العالم ولم ينخرم هذا اليقين السائد بأي شاهد من التجربة البشرية، ومبدأ السببية أحد قوانين العقل الفطرية,, وليس ابن رشد بأوحد في القول بقانون العلية، بل ذلك إجماع المفكرين، ومقتضى الأديان السماوية,, وإنما بعض الأشاعرة كالغزالي قصروا في النظر، فلم يجعلوا العلل موجبة بذاتها؛ لأنها كلها معلولة بإرادة الله وقدرته,, والصواب أن الله جعلها موجبة بذاتها، وذلك جزء من سنته الكونية سبحانه، وكلها ماضية بخلق الله وتدبيره، ومعطلة في الخوارق بمقتضى إرادته وحكمته؛ فخالق نواميس الكون بمشيئته هو الذي يخرمها بمشيئته,
وهاني مندس في موقع التمجيد لابن رشد، والاعتزاز به، ولكن برؤية ماركسية,, وابن رشد مهما كبرت هفواته خير وأزكى من ذوي الرؤية الماركسية,, وقد ذم مندس ابن رشد حيث ظن أنه يمدحه؛ لأنه جعل دفاع ابن رشد عن مبدأ العلية محاباة لبيئة دينية متعصبة!!,
قال أبو عبدالرحمن: هذا يعني اتهام ابن رشد بالنفاق، وأنه يقول ما لا يعتقد,, ثم كل هذا يعني في النهاية أن ابن رشد غير جاد ولا صادق في الدفاع عن مبدأ العلية!!,,ويعيذ الله أبا الوليد من ذلك,
ولو حمل علم وفكر كل علم على المحاباة لأبناء بيئته: لكان كل مأثورنا عبثاً,, بل مأثور العالم بأجمعه,
ومن التجاوز غير المحقق قول مندس: فابن رشد يؤكد بشدة هنا على أن مسألة العلية عنده لا ترجع إلى الضرورة المنطقية !!,
قال أبو عبدالرحمن: كيف يصح هذا القول وقد أسلف أن العلية عند ابن رشد لا تنفصل عن طبيعة العقل؟!,, إن كون العلية من طبيعة العقل هو الضرورة المنطقية ذاتها؛ فالعقل المحض ،قبل التجربة مفطور على حتمية السبب ولا يتصور شيئاً بلا سبب، ولا ينقطع تأمله حتى يجد السبب,, كما أن العقل المجرد ،بعد التجربة عاجز عن شاهد من حدث بلا سبب، بل كل معارفه عن حوادث وعلل حتمية الوجود محتملة التعيين,
والعقل من مخلوقات الله؛ فهو جزء من الطبيعة,, وجاء في سياق مندس عندما حكى عن ابن رشد أن العلية لا ترجع إلى الضرورة المنطقية، وهي حكاية واهمة قوله: بل هي مسألة وجود الأشياء عندما جعل العقل جزءاً لا يتجزأ من طبيعة النظام والسببية في الكون ,
قال أبو عبدالرحمن: هذا هذر إنشائي، ولا صلة لإثبات العلية أو نفيها بحقيقة أن العقل جزء من الطبيعة,
وبعد تبيان سمات الأخذ بالعلية لخص الأستاذ هاني مندس نتائج مذهب الغزالي في السببية فيما يلي: إن تصور الغزالي عن العلية يقودنا مباشرة إلى إنكار الوجود الموضوعي المستقل للأشياء والموجودات في العالم الخارجي,, كما أن إنكار الهوية الخاصة لكل الأشياء يؤدي بنا إلى القول بعدم اليقين والتحقق التجريبي لمعارفنا من العالم الخارجي,, وهذا من شأنه أن يُفقد العلم والفلسفة كل دعامة أو قيمة يقينية عملية، ويؤدي إلى إنكار وجود القوانين، والقول بالفوضى، وعدم النظام والثبات,, حيث لا يبقى أمام الإنسان في النهاية سوى الاستسلام التبريري لمشيئة الله,, ،أي للنظام القائم التي ،8 صورها الغزالي أشبه ما تكون بالعبث منها بأي شيء آخر يدل على الحكمة,, بينما من صفات الفاعل الخالق كما يقول ابن رشد الثبات والحكمة لا العبث والتلاعب ،9 ,
قال أبو عبدالرحمن: ما أخطأ أبو حامد الغزالي في الرد إلى المشيئة الربانية؛ فهي مشيئة الخالق الملك المالك القدير الحكيم المهيمن,, وتعريضه بالاستسلام التبريري لمشيئة الله نتن إلحادي,, والاستسلام لله هو الحرية الحقيقية التي يفخر بها المؤمن,, ومن تأبى عن عبودية العز والشرف ،وهي طاعة الرب سبحانه والانقياد لشرعه فسيذوق عبودية القهر والإذلال مرتين:
الأولى: في دنياه,, في حتميات الولادة، والوفاة، ومقدار الأجل، ووضعية الحياة من صحة ومرض، وغنى وفقر,, إلخ,
والثانية/ في آخرته بمدلول قوله تعالى: ،إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبداً ]سورة مريم/ 93[، وقوله: ،كلا لاوزر, إلى ربك يومئذ المستقر ]سورة القيامة/ 11-12[، وقوله: ،وما هم عنها بغائبين ]سورة الانفطار/ 16[، وقوله: ،يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله ]سورة الانفطار/ 19[,
وكلمة الثبات ليست من أسماء الله، وليست مما يوصف به سبحانه,, وأما الحكمة فهي من صفاته، وهو المقدس المنزه عن العبث والتلاعب,
قال أبو عبدالرحمن: وإنما أخطأ أبو حامد عندما قصر، ولم يؤمن بغير العلة الكافية، وهي إرادة الله؛ فهذا حق، ولكن إرادة الله وحكمته وقدرته جعلت لكل حدث سبباً أو أسباباً، وجعلت للأسباب أسباباً، ثم مآل كل ذلك إلى مشيئة الله وقدرته، والله المستعان,
،1 في الأصل: ليست نابعة عن
،2 الصواب: على
،3 مجلة دراسات عربية س7/ ع7/ مايو 1971م ص 58-59
،4 المصدر السابق ص 59
،5 هكذا في الاصل، ويصح في صناعة النحو نصب شيء وواحد على أنهما حالان,, إلا أن هذا لا يناسب سياقه؛ لأنه يخبر بالواحدية، ولا يخبر بقيد الواحدية، فالصواب إذن الرفع
،6 ليس هذا الإطلاق صحيحاً، وإنما ذلك مذهب قلة من متكلمي الأشاعرة
،7 مجلة دراسات عربية س7/ ع7 ص 59-60
،8 الوصف لمشيئة
،9 مجلة دراسات ص 58


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved