أرانا موضعين لأمر غيب
ونسحر بالطعام وبالشراب
عصافير وذبان ودود
وأجرأ من مجلحة الذياب
ويقول في آخر القصيدة:
وقد طوفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
والمتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر كما يقول صاحب اليتيمة، سافر كلامه في البدو والحضر وكادت الليالي تنشده والايام تحفظه:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً
بزَّ غيره وتقدم على أقرانه ، فقد وفد على بلاط سيف الدولة وهو يعج بالشعراء فما طاوله شاعر ولا وقف بجانبه خصم إلا تضاءل أمامه، فإن ألقى قصيدة بهرت الحضور بحسن مطلعها فحفظ الحضور المطلع وسار في الناس منذ أن تلفظ به إلى يومنا هذا؛ فمن منا لا يحفظ قوله: المجد عوفي إذ عوفيت والكرم وقوله: الرأي قبل شجاعة الشجعان وإن قال في الغزل أجاد مع أنه لا يعيره اهتمامه كقوله:
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة
أوراكهن صقيلات العراقيب
وقد أثرى شعر المتنبي المعرفة العربية والإسلامية والإنسانية الى درجة عالية لم يصل اليها أي شاعر آخر، فالخاصة والعامة يحفظون له ما يعينهم على مواجهة الحياة في جميع امورهم، فإن رأوا مالا آل الى آخر بسبب مصيبة حلت بصاحبه تمثلوا بقوله: مصائب قوم عند قوم فوائد وإذا عرف الإنسان قيمة الكتاب ذكر قوله وخير جليس في الزمان كتاب وإذا حزب الإنسان أمر ولم يجد المساعد ذكر قوله: إذا عظم المطلوب قل المساعد، وينظر الناس إلى الغالب يتصرف كيف يشاء فيذكرون قول المتنبي: والبر أوسع والدنيا لمن غلبا, وإذا كان المتنبي قد شغل الناس بشعره فقد شغلهم قبل ذلك بنبوته التي أعلنها في اللاذقية، وقد استجاب له بعض الناس ولكنه رجع عن غيه بعد ذلك,
هذان العلمان في الشعر امرؤ القيس والمتنبي ليسا من مضر أو ربيعة وإنما هما من عرب الجنوب أي من القحطانية، فامرؤ القيس من كندة، وقد أنكر طه حسين امرأ القيس وشعره بحجة اختلاف اللغة فعرب الشمال لهم لغة وعرب الجنوب لهم لغة، ولكنَّ امرأ القيس معروف مقبول لدى العرب جميعا وإن كان من عرب الجنوب, والمتنبي ينتسب الى قبيلة مذحج، فهو من جعفيّ بن سعد العشيرة من مذحج، ومذحج اسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، فهذان العلمان رفعا شأن الشعر العربي الى أفق لم يصل اليه شاعر آخر من شعراء العربية بعدنانيتها وقحطانيتها,
د, عبدالعزيز بن محمد الفيصل