هل فهمنا الحداثة أو لا؟
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
من الدراسات الجديدة عن السياب كتيب مدخل الى الشعر العربي الحديث/ أنشودة المطر لبدر شاكر السياب نموذجاً لمحمد الخبو ,, وقد عانى في مدخل هذا الكتيب مصطلح معاصر، وحديث ، وحداثة,, وتلمس مدلول هذا الاصطلاح لدى القدماء من العرب كابن رشيق، والصولي ، وعبدالقاهر، والمرزباني,, وعند المتأخرين من الخواجات مثل هانز روبير ياوص، وبودلير,, كما تناولها عند المنظرين من العرب المعاصرين من امثال عز الدين اسماعيل، ونازك الملائكة، وادونيس، ومحمد بنيس ، ومحمد النويهي,, ويمكن الرجوع الى سياق المؤلف 1 للفائدة الثقافية ,, اما فكرتي التي كونتها عن هذه المصطلحات ومدلولها - مراعيا المعنى اللغوي، ومعاني المصطلحين السابقين ، وواقع المتغيرات الداعية لهذه المصطلحات - : فألخصها في التالي:
1 - المعاصر صفة لعموم الادب في جميع الرقعة العربية منذ تأثر - ولو بعناصر يسيرة - بآداب الغرب ,, ويحدد ذلك بحملة نابليون على شرقنا العربي الى يومنا هذا، فيدخل من جهة الشعر ادب شوقي,, الى العقاد,,, الى المهجر ,, الى الرومانتيكية,, الى الحداثة,
2 - الحديث صفة لكل تجديد في هذه الحقبة,
3 - الحداثة ,, وليست هي احدث الحديث باطلاق، بل قد يرد تحديث بعدها ليس على نهجها؛ فلا يسمى حداثة,, وانما الحداثة صفة لاحدث الحديث في الادب المعاصر الحديث، ولكن بسمات ميزتها شكلا ومضمونا عن كل حديث سبقها؛ وبهذا تجعل شعر سعيد عقل، ونزار قباني ادبا حديثا معاصرا، وتجعل ما استقر عليه شعر السياب والبياتي وعبدالصبور,, الخ ادبا حداثيا ,, اما ما يحتمل حدوثه من تجدد فلا نشغل انفسنا بمعاناة الاصطلاح عليه ، ونترك ذلك لجهد من سيعايشه,
والمؤلف الفاضل تتبع خصائص الحداثة من خلال انشودة المطر، ولم يكن ذا حس حداثي في الدعوة الى خصيصة بتدليل وتعليل، او التبشير بخصيصة عن رؤية نقدية واحساس جمالي,, وانما كان يرصد الفروق بين الشعر السلفي والمعاصر والحداثي ليخرج بهوية ادب الحداثة من خلال ذلك,, وهذه مهمة ليست وقفا على المبدعين ولا على ذوي الحس الفني ، وانما هي مهمة رصدية تقريرية يقوم بها اي كاتب وان لم يكن اديبا بالطبع او التطبع,
وأوجز سمات الحداثة في التالي:
1 - ظاهرة القراءة البصرية للقصيدة,, بمعنى ان للبياض الكثير على الورق مدلوله الخاص,
قال ابو عبدالرحمن: وقد تفلسف كثير من المعاصرين حول هذه الظاهرة ,, ولا ارى لها مدلولا يشكل قيمة حداثية؛ لان المتفلسفين عاجرون عن تجسيد هذه الظاهرة قيمة فنية ملموسة,
اما ان كثير الشعر الحداثي قراءة صامتة لا هدير خطابي فتلك قضية اخرى,
2 - تتبع لظواهر من التفعيلات والزحافات نموذجا ورصدا واحصاء ,, ونظرته في ذلك سلفية محضة على غرار دراسات نازك الملائكة ,, ولا قيمة فنية لهذا التتبع الا ان ينتج تقعيدا موسيقياً لوحدات لحنية سلبا او ايجابا اي ما يسمى بلغة المطربين كوبليه ,
3 - التعبير بالصورة، وقد تناولها تناولا ساذجا,
4 - ما سماه بمسألة البناء ولا تخرج من دراسته بقيم محددة,, وقد كفي بدراسات ذوي الحس الفني الحداثي عن معمارية القصيدة الحديثة,
5 - الايحاء الدلالي في القصيدة الحداثية، وقد وصفه بالانفعال والتعدد ، واورد مقطعا من قصيدة المسيح بعد الصلب ، وهو قوله:
}قلبي الشمس اذ تنبض الشمس نورا
قلبي الارض تنبض قمحا وزهرا وماءا نميرا
قلبي الماء قلبي هو السنبل
موته البعث يحيا بمن يأكل{,
ثم علق بقوله: في هذا المثال تكرر لازمة قلبي ضمن تراكيب نحوية متوازية: مبتدأ مركب اضافي + خبر وان كان هناك بعض التغيير في نوعية الخبر,, الا ان هذا التناسب بين التراكيب التي وردت فيها اللازمة المذكورة وان وصل عناصر الصور بعضها ببعض؛ فانه لم ينشأ عنه تماثل بين الصور المتعلقة بالقلب,, فهو يشبه بأشياء متباعدة في الظاهر ، فهو الشمس ، والارض ، والماء والسنبل في نفس الوقت، وما يجمع هذه العناصر هو الحركة التي تشبه حركة النبض,, ولكن كيف نتأول الاتساع الذي اتصف به القلب حتى كأنه الحياة عينها، وقد توفرت فيها كل العناصر المحققة لها؟,
لم كبر حتى وسع الوجود جميعه؟ ,, يمكن ان نقرأ هذه الصورة الشاملة للقلب المعادل للحياة بمقابلتها بصورته وقد مات,, موته البعث يحيا بمن يأكل ,, وقد وردت هذه الصورة في تركيب مواز للتراكيب التي وردت فيها لازمة قلبي، وهو ما يوحي بعلاقة بين القلب كونا حيا، والقلب موتا بعثا,, وانى تنتهي حياة عناصرها الشمس، والارض،والماء، والسنبل؟,, فهل المتكلم في القصيدة بصدد رصد حركة للتاريخ قائمة على الجدل؛ بحيث يكون الموت مولدا للحياة ، وقد تجسدت في ذاته؟ ,, وهل هذا القلب الكوني الذي ينبض حياة والذي يموت ليبعث رمزا لايمان عميق بقدرة البشر على التحدد والنهوض بعد السقوط؟,
فهذا نموذج للصور والتراكيب التي لا يمكن ان تحد الدلالة الشعرية منها بصفة مضبوطة، وقد تفاعلت الصور والتراكيب المتوازية التي حملتها لتأديتها,, والذي نستخلصه من النموذج السابق ان الدلالة الشعرية لا تستنتج من الصور فحسب ، بل قد تتفاعل هذه الاخيرة مع مستويات شعرية اخرى للايحاء بها؛ إذ قد تبين لنا من النموذج السابق ان التراكيب النحوية المتوازية كانت وجها من وجوه التقارب بين العناصر المشبه بها القلب ، ثم انها كانت اداة للتقريب بين القلب حيا كونيا، والقلب موتا بعثا 2 ,
قال أبو عبدالرحمن: ليس فيما سماه بلازمة قلبي سمة حداثية، بل ذلك اسلوب عربي راسخ,, يكرر المحمول عليه وتتعدد المحمولات ,, وذلك مثال من امثلة الإلحاح على الصورة بالوصف والتشبيه,, وهكذا تعدد الاحتمال في تأويل النص,, الا ان التأويل المعبر عن مراد الشاعر بلا ريب هو ما حقق كلية النص,, ومعنى كليته الا يسقط جزءا من النص لايجد تفسيره في التأويل الكلي، وألا يكون في التأويل تفسيرات لا يقابلها جزء من النص,, فالأول إلغاء لجزء من النص بتعطيل دلالته، والثاني ادعاء على النص بتفسيرات لا يتحملها,
ولم يوفق المؤلف في اختيار النص المحقق للمحتمل في التأويل، فهذا النص عادي مباشر ليس فيه محتمل,, استعار الشاعر عقيدة النصارى في الصلب، وحملها على دلالة البعث، وان الشاعر يموت في تضحيته لتحيا الامة بعده,
قال أبو عبدالرحمن: وبايجاز فمثل هذه الدراسة دراسة غير حداثية لقصائد حداثية تأخذ بظواهر شكلية، واحصاءات فضولية، ولا تسبر العمق الحداثي، ولا تزيد بعده تطلعا,
ومن عجائب الدراسة في هذا الكتيب انه ذكر قول السياب عن بودلير:
}دخلت من كتابك الأثيم
حديقة الدم التي تؤج بالزهر
شربت من حروفه سلافة الجحيم
كأنها اثداء ذئبة على القفار
حليبها سعار
وفيئها نعيم
غرقت فيه صكني العباب
يقذفني من شاطىء لشاطىء قديم
حملت من قراره محارة العذاب
حملتها إليك
فمد لي يديك
وزحزح الصخور والتراب{
ثم حكم المؤلف بان السياب تأثر ببودلير! 3 ,
قال أبو عبدالرحمن: هذا الحكم من النظريات السريعة الهامشية؛ لأن التأثر هو ما يصطبغ بالمضمون والشكل من سمات ادب الآخرين من غير قصد، بل يكاد يكون ذلك الاصطباغ صبغة فطرية,, وهاهنا يحاكي السياب عن عمد أدب بودلير، ويتمثله لينقل لابناء لغته سمات من سماته؛ فهذا وحده لا يسمى تأثرا,, وحقيقة الدراسة للتأثر ان ينظر في ادب السياب بتتبع؛ ليرى هل فيه شيء من بصمات بودلير بغير قصد من السياب أم لا؟,, هذا هو حقيقة التأثر,
حواشي:
،1 مدخل الى الشعر العربي الحديث/ دار الجنوب للنشر بتونس/ ط م الاساسية المنطقة الصناعية/ بن عروس/ تونس ص 15 - 30,
،2 المصدر السابق ص 149 - 150,
،3 المصدر السابق ص 33,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved