على الهامش
السيرة الروائية
حسين المناصرة
ثمة
مقولتان من الضرورة التنبه اليهما، الاولى ترى ان الكاتب الذي يكتب روايته الاولى، هذا يعني - رغما عنه - انه يكتب سيرته الذاتية ، وهذا ما يفسر وجود رواية واحدة لكثير من الروائيين، لأنه بمجرد ان انتهت التجربة الحياتية في روايته الاولى تنضب الكتابة الإبداعية الروائية لديه,, في حين قد تمتد التجربة الحياتية الى روايتين فأكثر, ومع هذه المقولة الاولى لا مجال لاعتبار الرواية منفصلة عن الكاتب من حيث التأريخ للذات، ولا يمكن بالتالي اعتناق مقولة موت المؤلف في مثل حالة الرواية الاولى بشكل عام,
اما المقولة الثانية، فهي ترى ان كل انسان - عادي او غير عادي اذا كان يعرف الكتابة والقراءة - قادر على ان يدون الصفحات والصفحات من سيرته الذاتية ، ولكن الاهمية في هذه الكتابة لن تعود بكل تأكيد الى المدونات نفسها، وانما الى الطريقة التي تصاغ بها السيرة، ومدى الكشف الداخلي والاسرار المخفية التي يمكن ان تنجز من خلال الكتابة السيرية، او من خلال اتقان الكتابة الروائية فنيا وجماليا!!,
ومن خلال هاتين المقولتين يمكن النظر الى الكتابة السيرية الروائية التي اصبحت الفن الاكثر شيوعا لدى كتابنا اليوم من منظار انها كتابة جديدة وهي تمزج بين السيري والروائي,
ويبدو ان الاشكالية المحورية التي نحن بصددها هي ان السيرة الذاتية لها شروطها التي تختلف عن كتابة الرواية ، ولعل أبرز الفوارق ان تكون السيرة الذاتية جريئة في التعبير عن حياة كاتبها، اضافة الى القصيدة التي تشير الى ان هذه سيرة ذاتية لا رواية، سواء من خلال المتن او من خلال تصريح الكاتب نفسه,
ففي الوقت الذي تعد فيه الرواية بنية يحاول فيها الكاتب ان يبعد ذاته عن الاحداث، بحيث تصبح الكتابة متخيلا تبقى السيرة الذاتية عملا ملتصقا بحياة كاتبه, دون ان يلغي هذا من امكانية ان تربط بعض حوادث او افكار الرواية بحياة الكاتب، لكنه ربط سيبقى غير مبرر منطقيا من وجهة نظر دراسات نقدية غير سيرية، لأن النقد السيري هو احدى القراءات المشروعة، مثل القراءات التحليلية التي تجعل من الكتابة تعبيرا عن حياة شعورية او لا شعورية للكاتب كما عودتنا على ذلك المناهج النفسية ، او مثل الدراسات الأدبية التي تجعل الكتابة تعبيرا عن سيرة تاريخية للكاتب ومجتمعه,
ومن الناحية التجنيسية فان ما بين الرواية والسيرة الذاتية امتزج ليشكل الكتابة التجنيسية الثالثة التي سميت الرواية السيرية ، وهي تلك الروايات السيرية التي تشعرك كمتلق بأنها تأريخ حياتي او ثقافي او فكري لحياة كاتبها، ولكن ليس بشروط السيرة الذاتية المعروفة، وانما بشروط الكتابة الشكلية الروائية، بمعنى ان يكون شكل الرواية جسرا للتمويه اثناء الكشف عن الذات بدون ان يكون هذا الكشف مباشرا، على الطريقة التي استنّها طه حسين في كتابه الأيام مثلا,
وسنجد أنفسنا امام هذا الكم الكبير من الروايات السيرية بحاجة الى ان نتفاعل مع جماليات جديدة، يفترض ان تختلف عن الجماليات التي نتصورها في السيرة الذاتية على حدة، او في الرواية على حدة، فاذا كانت الرواية من الناحية الجمالية تعميق للتخييل، وان السيرة الذاتية تعميق للكشف عن المخفي، فان الرواية السيرية يجب ان تأخذ شيئا من التخييل، وشيئا آخر من الكشف، وثالثا من الانفتاح النصي,, وهكذا لتستطيع في النهاية ان تبني لها كينونة جمالية خاصة بها,
كمثال قدّم اليّ احد الاصدقاء رواية العدامة - إعارة - كي اقرأها، واحاول ان اكتب عنها، فقرأتها في ثلاثة أيام، وبكل تأكيد استمتعت بقراءتها ، لانها رواية تشدك الى قراءتها,, لكنني لم اكتب عنها، لان مسألة الكتابة من وجهة نظري تعني صياغات جمالية، خاصة وانني غير معني بتقديم ما يطرح فيها من قضايا فكرية وثقافية، لأن الرواية أقدر مني على قول ما اريد اختزاله منها من هذه الناحية,
والسبب الاخر الذي احبط الكتابة النقدية لدي هو ان العدامة ذات بنية سردية عادية وغير مربكة روائيا، كما ان المفارقات الإشكالية فيها ليست عميقة,, ومن هنا فهي من الناحية الروائية متواضعة الى حد كبير سيما وانها وجهة نظر واحدة، بمعنى انها ليست ذات تعددية صوتية او لغوية او رؤيوية,, الخ لتغري بقراءة نقدية إشكالية,, وهذا لا يلغي انها جريئة في طرح المسكوت عنه, وهي ايضا من ناحية السيرة الذاتية، ليست سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وان كانت من الناحية العرفية يمكن ان تحسب على السيرة الذاتية، رغم محاولة الكاتب ان يجعلها من خلال بعض البهارات الروائية تظهر وكأنها رواية لا علاقة للكاتب بها من حيث كون اسم البطل في العدامة يختلف عن اسم المؤلف ، هذا على اقل تقدير والامر ليس بالتالي البحث عن تجنيس لها، لان تجنيسها يمكن ان يحسم لصالح الرواية السيرية !,
ومعنى هذا اننا امام جنس سردي جديد هو الرواية السيرية وهو جنس يحتاج منا بكل تأكيد الى ان نقعد جماليا له: بعد ان اخذت مثل هذه الكتابات السردية في التسعينيات تتصدر الكتابة الجديدة، وقد يكون لها دور فاعل مع القرن القادم,
والأمر نفسه طرح على مستوى العصفورية في الاثنينية ، حيث ثار جدل حول التجنيس: هل العصفورية رواية او سيرة ذاتية، او سيرة ثقافية او سيرة فكرية، او رواية سيرية، او كتاب ثقافي، او نص، او كتاب,, الى آخره؟!! وكان شبه الاتفاق في النهاية على ان العصفورية كتاب ثقافي ,, لكنني اعتقد انها يمكن ان تكون مزيجا من هذه التعريفات كلها,
فالرواية السيرية تبدو في النهاية في شكل النص المفتوح مثلها مثل حياة الانسان نفسه - او كاتبها على اقل تقدير - وهي حياة في عصر الانفجار التكنولوجي وانفتاح العالم تصبح مليئة بالوقائع المألوفة والغرائبية، لذلك ليس من الغريب ان تكون الكتابة حالة من حالات التداعي الذي يعني انفتاح العقل المثقف على الأزمنة الثلاث لتصبح اللغة عند هذا العقل بانوراما متعددة الآفاق، الممتزجة مثل الكوكتيل في سياق من سياقات التناص وتعددية النصوص داخل النص الواحد,
والكتابة بهذا المعنى شكل من اشكال الكتابة المفتوحة التي اصبحت تغزو كافة الاجناس الادبية التي كانت معيارية في تجنيسها في الزمن الماضي,
فما هي الجماليات التي يمكن ان نشكلها لهذه الكتابة المتجددة سواء من خلال ما لدينا من جماليات عامة في فضاءات السردي والشعري او من خلال الجماليات التي يمكن استنباتها من الجنس السردي الذي نتفق على ان يسمى الرواية السيرية ؟!
انه سؤال مشروع ومطروح وبحاجة الى إجابات نقدية متجددة,,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved