جمالية الفن الأدبي
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
الفنون الجميلة جنس واحد بأحد الاعتبارات، وهي أجناس متعددة باعتبارات أخرى,, إن مادة النحت والتصوير غير مادة القول شعراً ونثراً، والموسيقى مسموعة، والصورة مرئية,, إلخ,, إلخ، فبمثل هذه الاعتبارات تكون الفنون الجميلة أجناساً,
وكل الفنون الجميلة على اختلاف أجناسها تحكمها قيمة معيارية واحدة هي القيمة الجمالية، وبذلك أصبحت الفنون الجميلة جنساً واحداً,
ولقد أصاب عالم الجمال الفرنسي آلان في واحدة، وأخطأ في أخرى,, أصاب عندما قرر في كتابه نظام الفنون الجميلة أن وحدة الفنون قائمة على الاختلاف بين أجناسها,
قال أبو عبدالرحمن: وإن كان التعبير الأفضل أن يقال: قائمة على القيمة الجمالية ,
وأخطأ عندما قرر: أن واحداً من الفنون الجميلة لا يستطيع وحده تصوير الواقع من جوانبه كلها,, ويريد بالواقع اجتماع الإحساسات بالأنماط الجمالية في فن واحد,, ووجه الخطأ أنه يطالب الطبيعة بما ليس فيها، فمن جهة الموضوع فكل فن لا يعطيك إلا ما فيه من نمط جمالي، ومن ناحية الذات فلا توجد ذات بشرية تستوعب كل الأنماط الجمالية في وحدة تامة زماناً ومكاناً وموضوعاً,
قال أبو عبدالرحمن: ولا أحسب أن كتاب نظام الفنون الجميلة منقول إلى اللغة العربية، لأستوفي عبارته بنصها، وإنما يكثر النقل عنه في كتب الدراسات الجمالية 1 ,
والجمال هو ذات البهجة في النفس، والجميل هو ما ولَّد هذه البهجة خارج الذات,, ويأتي الجمال من مصادر معنوية غير حسية كالأخلاق والحقائق إذا ارتبطت بالمشاعر برابطة الحب,, وهذه المصادر حسية باطنة سواء أتولدت من محسوس ظاهر كالصوت الجميل المسموع، أم تولدت من معنوي غير محسوس بالحواس الخمس الظاهرة كلذة حب العدل والصدق، والنجدة,
والاستاطيقا تجمع الجمال والأخلاق، ولكن درج تصنيف الفنون الجميلة على فصل الجمال الفني عن الجمال الطبيعي، لأن المراد الإنتاج البشري الذي هو انعكاس للجمال الطبيعي بعناصر مجتمعة أو مبددة, والظاهرة في الفنون الجميلة بروز مصدرية الحسية الظاهرية للجمال، فيكون الجمال ذا مصدر حسي ظاهر بالرؤية أو السمع,, وما صدر عن اللمس - ويدخل فيه الذوق، لأنه لمس باللسان - فالجمال فيه - لو حصل التعبير به - مجازي، ولا يكون الوصف بالجمال، بل بالحلاوة، والمرارة، والحرارة، والبرودة، واللين، والصلابة، والنعومة، والخشونة,, على أنه قلما أطلق الجمال ها هنا, ومثل ذلك ما مصدر عن الشم,, إلا أنه يرد فيه الوصف بالجمال تجوزاً، فيقال للرائحة الطيبة: رائحة جميلة,
وعلى الرغم من بروز الحسية الظاهرية لمصدرية الجمال في تصنيف الفنون الجميلة إلا أنها أدخلت الفن الأدبي في الفنون الجميلة مع أن المصدر الحسي فيه ضئيل مثل استحلاء الأذن لكلمة دون كلمة في سياق معين,, وما عدا ذلك فمصدر الجمال معنوي، لأن أكثره إدراك عقلي لمعنى جميل,
على أن مفكرين كثيرين لم يوفقوا في فصلهم الجمال الأدبي عن الفنون الجميلة مثل ثورتيل في كتابه مفتاح الأدب، إذ جعل كلمة فنان 2 تعني الرسام، والموسيقي، وقلما تعني الكاتب 3 ,
وأكثر منه حيفاً عالم الجمال غولتييه في كتابه معنى الفن، إذ الفن عنده: إما بصري كالعمارة والرسم، وإما سمعي كالموسيقى,, والأدب عنده ليس هذا، ولا ذاك 4 ,
قال أبو عبدالرحمن: ربما سنحت فرصة لمناقشة بعض أفكار غولتييه، وحسبي الآن التأكيد بأن الفن الأدبي هو أعرق الفنون الجميلة وألصقها بالجمال وإن حصل الخلاف الكثير في اعتباره من الفنون الجميلة!!,, والسر في ذلك أنه الفن الوحيد الجامع لأكثر الأنماط الجمالية المشتركة بين الفنون الجميلة، لأن قوام الجمالية الأدبية عناصر موسيقية وتصويرية وكلمات راقصة إضافة إلى كل الجمال المعنوي,, وهو إلى ذلك إشارة وإيحاء وتنصيص يتعلق بما في مخزون الذاكرة من معهود حسي ظاهري من الجمال المشترك,, بل ربما سبق الأديب ريشة الفنان أو هداها إلى تخيل جمال حسي، فأسمي ذلك وجوداً بالقوة، فإذا ظهر في لوحة الرسام المرئية كان وجوداً بالفعل كقول طفيل الغنوي:
غروب كأن الشمس تحت قناعها
إذا ابتسمت أو سافراً لم تبسم 5 ,
ومن قيم الجمال الكثيرة الكثيرة الابتكار والتناسق، وليس الرسام والموسيقي بأسعد بهن من الأديب,
ولا لوم ولا عتب في إبعاد كثير من الجماليات عن دائرة تصنيف الفنون الجميلة، لأن الجامع في التصنيف هو الإنتاج البشري لغرض تحقيق قيم جمالية، فيشمل ذلك التصوير والموسيقى، والرقص، والأنواع الأدبية,
قال أبو عبدالرحمن: وقد سبق على لساني وقلمي كثيراً التعبير بالأجناس الأدبية,, وهذا هو الدارج على ألسنة وأقلام ذوي الاختصاص، وقد تبين لي خطأ هذا الاصطلاح، لأن الفن الأدبي جنس واحد، وإنما تحت هذا الجنس أنواع لا أجناس من الشعر والرواية والقصة والمسرحية والأقصوصة والحدوثة والحكاية والمثل والمقالة الفنية,
والعمارة من الفنون الجميلة، لأن القيمة الجمالية مطلب يزاحم القيمة النفعية وهي مجرد السكنى,, وإذ فتح الباب لهذا فيجب أن تكون الأزياء من الفنون الجميلة,
والأسلم الاقتصار على التصوير والرسم من أجناس الفنون الجميلة، وهما المرجع للعمارة والأزياء,
ولمراعاة الإنتاج البشري الجمالي في تصنيف الفنون الجميلة لم يكن الجمال الطبيعي من الفنون الجميلة، إلا أنه إبداع وخلق صانع الكون سبحانه,, إلا أن الجمال الطبيعي هو مصدر الجمال الفني محاكاة في التأليف، أو إبداع تأليف من عناصر كونية متناثرة,, وأما وجود فن جمالي لا مصدر له من عناصر الجمال الطبيعي فمحال، ومحال تصوره,, كما انه يستحيل تصور غير محسوس,, والله المستعان,
الحواشي:
1 وإفادتي ها هنا من مقالة الأدب والفنون الجميلة لعيد معمر المنشورة بمجلة التوباد العدد الرابع عشر/ محرم عام 1413ه ص90-93,, وعيب هذه المقالة النقص في التوثيق، إذ لا يبين هوية المصدر,
2 يريد بالطبع الفن الجمالي,, أما عند الإطلاق فالفنون عديدة,
3 عن المصدر السابق,
4 عن المصدر السابق,
5 التقطت هذا البيت من سياق الدكتور عبدالقادر فيدوح بمقالته البنية الذهنية للجمالية العربية المنشور بمجلة آفاق الثقافية والتراث / السنة الخامسة/ العدد 17/ محرم سنة 1418ه ص12 وهو يستعرض شواهد جمالية من الشعر العربي,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved