على الهامش
ثقافة الإلغاء والمصادرة
حسين المناصرة
ما زالت
الثقافة الابداعية، وستبقى دوما، تطرح اشكاليات الغموض والوضوح من منطلق الالغاء والمصادرة على طريقة المغامرة المدرسية المزاجية الذوقية، وإن كان الهدف المعلن لدى كل مُصادِر ملغ يتقصد المنهجية النقدية الموضوعية شكلا لا جوهرا, في حين يعد موضوع الغموض/ الوضوح او الإيحاء/ المباشرة الموضوع الحيوي في تاريخ الآداب كلها، وذلك عندما تحدث المفارقات بين نص يحتاج الى انتاج، ونص آخر واضح مباشر جاهز للاستهلاك, وبكل تأكيد يوجد نص ثالث يقع في المنطقة الوسطى بين الغموض الاعلى والمباشرة الدنيا، مما يبرر لكثير منا الانسجام مع مقولة النص السهل الممتنع او النص الشفاف فنتقافز مرددين هذا هو النص الذي نريد!!
هل علينا ان نعترف دوما بعدم وجود النص الواضح بالكامل، وبعدم وجود النص المغلق بالكامل؟!! وما مدى ان نقتنع بامكانية تواجد المستويات العديدة في نصوص كل الكتابات، وان ثقافات القراء المتعددة هي التي تحدد، وبطريقة علمية او مزاجية، درجات النص بين الوضوح والغموض، ليصبح النص بالتالي محكوما بديناميات الثقافات المهيمنة لا بديناميات النص نفسه، ولهذا لا نستغرب ان يكون المتنبي اعظم شعراء العربية في ثقافة، وهو ليس بشاعر في ثقافة اخرى,,,!!
وفي كل الاحوال، كان من الاجدر بنا الا نغبن النصوص حقوقها، فنجعلها مثارا للسخرية، لأنها ببساطة قد تكون امثولة ابداعية لدى آخرين,
ولأن التناقض هو السمة الاكثر بروزا في طبيعة المثقف والثقافة المعاصرة، فان التحولات الرؤيوية والجمالية اصبحت تتطاير متناقضة بشكل ملحوظ قد لا ينتبه اليها المثقف نفسه كما يتنبه اليها الآخرون، فلم يعد هناك لدى الكثير من المثقفين مجال للتجرد والحيادية في ظل المقولات الثقافية المجامِلَة التعميمية التي اصبحت تشبه المصالح التجارية، ولكن بطريقة ثقافية معجونة باستعراضات لغوية محلاة بالمحسوبيات والشلليات والنرجسيات كما يردد بعض المثقفين!!
لمن يكتب الكاتب؟ ومن يقرأ كتابته، وهل الانتشار الاعلامي دليل على سلامة الكتابة؟ ام ان قراءة آلاف القراء لنص ما معناه ان هذا النص مثالي، وأن عدم قراءة بعض النصوص معناه تهميشها؟!
بامكاننا ان نقول: ان النصوص التي اثارت اشكاليتي الجريمة والجنس كانت هي النصوص الاكثر رواجا لدى عموم القراء، في حين كانت النصوص الفلسفية - على سبيل المثال- اقل النصوص انتشارا، بل اقتصر انتشارها على النخبة,, وهنا نقر بأن الكتابة كتابات مشروعة، كما ان القراءة قراءات مشروعة، وأن اي ناقد/ قارىء يحاول ان يضع نفسه في دائرة تعميم احكامه الذوقية، غالبا مع يضع نفسه في دائرة النقد البطرياركي المعياري الذي يجعل من المعلومة الذوقية الخاصة توهما معلومة علمية كاملة شاملة لا تقبل الافساد او النقض، فهو ان صادر وألغى، يصادر ويلغي باسم العلمية والمنطق، وان صادر الآخرون وألغوا بعضه، يصادرونه باسم الحقد والكره والغوغاء,, فأية مفارقة هذه التي تجعل من بعض ثقافات النخبة المهيمنة تنكفىء على وجهها لتصبح علامة غير حضارية، لكنها تبقى مشروعة!!
اغلبنا، ان لم يكن كلنا، في الثقافة العربية نرفض النص السريالي اعقد النصوص الحديثة، لأنه نص غير تواصلي، مع عدم الاقرار باستحالة فهمه او تفسيره، والذين كتبوا مثل هذا النص في العالم العربي يعدون على رؤوس الاصابع لأنهم، من وجهة نظر معادية لهم، عبثيون وجوديون فوضويون اقتنعوا بأنهم فلاسفة، ومن هذه الناحية من حقهم ان يمارسوا مشروعية كتابتهم، كما من حقي الا اقرأهم او ان اقرأهم لإنتاجهم سلبيا بطريقة موضوعية فنية،,, لكن لا استطيع ان ألغيهم او اصادر وجودهم الذي اتصوره هشا او مبتذلا!!
ولعل الخطورة الكبرى تنبع من تلك المقولات التي اصبح يرددها كثير من المثقفين لتصادر الكتابة الجديدة وتلغيها بعموميتها: ضد الشعر الجديد، وضد الرواية الجديدة، وضد القصة الجديدة، وضد المسرح التجريبي، وضد النقد الجديد، وضد النص الجديد، وضد الكتابة عبر النوعية,, وضد الحساسية الجديدة، وضد الكاتب الجديد، وضد الثقافة الجديدة، وضد اللغة الشائعة في الكتابة الجديدة، وضد المعاصرة,, وضد الحداثة,, وضد البنيوية,, وضد التفكيكية,, وضد الما بعد,, وأخيرا ضد نفسي التي احجر عليها التفاعل بحساسية جديدة مع الخطاب الجديد!,, وكل هذه الاشياء وغيرها انا ضدها بحجة ان القارىء العادي لا يفهمها، بل ان القارىء المثقف وأنا مثقف لم يعد يفهمها,, ومن هذا الكلام خذ وفرق !!
يا سيدي,,، القارىء العادي لم يعد منذ السبعينيات تحديدا يهتم بالكلمة كلها، لأنه ببساطة انشغل بثقافته الاستهلاكية، او هكذا وجد نفسه مستسلما لثقافة الاستهلاك التي فرضت عليه او فرضها على نفسه لافرق، وانه لم يعد يكترث بكل النصوص التي تحتاج الى انتاج، وان المثقف الاصيل بالتالي من حقه ان يرفض الخطاب الادبي الاستهلاكي الذي يثير ويشبع غرائز قراء العامة الذين يلتهمون كل الشعر الوجداني مباشرة، لتغدو المكتبات العامة مليئة بالكتابات الواضحة المباشرة الى حد الاختناق!!
وما دمنا لا نفضل الكتابة السيريالية، ولا نفضل، ايضا، الكتابة المباشرة التقريرية، فإننا يجب ان نتفق على ان النص الجيد هو النص الذي يترك مساحة فارغة لقارئه كي يضيف الى النص لغة جديدة ووعيا جديدا، ليشعر القارىء المثقف تحديدا انه يشارك في كتابة النص من خلال اعادة انتاجه في مقاربة تفتح النص ليصبح خطابا مليئا بالاحتمالات ومتوالية مليئة بالجماليات,, على عكس النص الذي يموت بعد استهلاكه او قراءته مباشرة,
ومن هذه الناحية لا يجوز لي ولك في اي حال من الاحوال ان نلغي النصوص الجديدة بأحكام معيارية، كما ليس من حقنا ان نلغي وجود درجة ما من الجمالية في اي نص مهما كان نوعه او درجة وضوحه وتقريريته هذا من جهة, ومن جهة اخرى فان مستوى ما يقال عن الكتابة الجديدة سلبا لا يتجاوز الشعارات، علما بأنه كان من الاجدى ان يجند اصحاب المصادرة والالغاء ذواتهم لتسطير الكتب تطبيقا لا تنظيرا لهدم الكتابة الجديدة من اجل بناء الكتابة الاخرى المقبولة والتي غالبا ما تكون مستنتجة من الكتابة الماضية في تصورهم وفي اي وقت نجد مجموعة من الكتب العلمية الحيادية تترعرع في فضاء هدم الكتابة الجديدة لأجل البناء، نستطيع حينها ان نقول: لا توجد لدينا ازمة خوف او تعميم او تناقض في النقد المعياري، وأن زمن الاحكام الفضفاضة الشعارية تلاشى، وأننا اصبحنا بألف خير، لأننا اصبحنا نحترم ذواتنا غير المتناقضة في صراحتنا الموضوعية!!
وهكذا، فاذا اتفقنا على ان العيوب كثيرة في النصوص الجديدة، فلماذا نغفل هذه العيوب، وتصبح مقالاتنا وقراءاتنا ما بين تمجيد وتمجيد، وأحيانا تلميح مشاكس,, وتبقى التنظيرات لا شغل لها سوى الهدم النظري للكتابة الجديدة، أليس هذا هو التناقض المرعب في الثقافة، أليس هذا هو اللاوعي الذي يمارسه اصحاب نظريات المصادرة والالغاء، وهم لم يعودوا يقرءون الكتابة الجديدة وتتبع ما ينتج فيها، وان كنت اشك في ان يكونوا قرؤوها، لكنهم يصرون على ان يرددوا رفضهم للكتابة الجديدة على اعتبار ان هذا الرفض اصبح ماركة مسجلة يتشدقون بها في كل المقامات,وفي المقابل، وافضاء الى عدم التحيز، نجد بعض انصار التجديد يتقوقعون في مصطلحات مشابهة، يرفضون من خلالها كل كتابة لا تنسجم مع اطرهم التي تعلي من شأن كتابتهم المتجاوزة لكل التاريخ الثقافي المنصرم، والذي يبدو لهم في صورة تاريخ فقير للغاية، لأنه لم ينجز كتابة مثل كتابتهم,, في صورة من الصور النرجسية غالبا والشوفينية احيانا,
كلام كثير يمكن ان يقال في ثقافة الالغاء والمصادرة، لكن الافضل دائما هو ان نفرق قدر الامكان بين امزجتنا وموضوعيتنا، بين حدودنا الذاتية وحدود الاخر، بين الرؤية الثقافية الاحادية والرؤية الثقافية المؤمنة بمشروعية التعدد، بين الانفتاح والانغلاق، بين الحوارية والبطرياركية، بين النفاق العيني والجرأة التعميمية، بين المصادرة والالغاء من جهة والاختلاف المشروع العلمي من جهة اخرى,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved