رؤى وآفاق
العمل الأدبي والمتلقي
خيوط التواصل بين صانع العمل الأدبي والمتلقي ضرورة تفرضها طبيعة العمل، فإذا توافرت قويت العلاقة بين المتلقي والأديب واذا ضعفت انعكس ضعفها على العمل الأدبي, وخيوط التواصل هذه من أهم الأمور التي يجعلها الأديب بين عينيه عندما يشرع في صناعة عمله الأدبي على امتداد التاريخ الأدبي، وهذه المسألة هي التي شكلت القصيدة وحددت سمتها في كل عصر، وهي التي وضعت الخطبة في هيئتها، كما أنها أوجدت المقامة، وفرضت الأسلوب الملائم في كل عصر، ففي العصر الجاهلي تبلورت القصيدة الجاهلية في الاهتمام بالبيت، واستقلاله بنفسه، حتى يكون صالحاً للسيرورة بين الناس، واستحضاره في المجالس، وسهولة حفظه، وهذا الاتجاه في صنع القصيدة يدل على أن الأديب يفكر في المتلقي، ويتحسس خيوط التواصل في كل خطوة يخطوها في بناء قصيدته، ومن أجل ذلك بنيت القصيدة الجاهلية على ما يرضي ذوق المتلقي، فبدأت بالوقوف على الأطلال وذكر المرأة ووصف الناقة والطريق والوحش ثم النفاذ الى الموضوع، وتنتهي القصيدة بخاتمة، والشاعر الذي يفكر في المتلقي هو الذي بقيت قصيدته وتقدمت على غيرها، أما الشاعر الذي يكون اهتمامه بالمتلقي أقل - كالشاعر الصعلوك - فإن الاهتمام بقصيدته جاء في درجة متأخرة, ورواية الخطبة من قبل مستمعيها مرتبطة بقبولها، والقبول يدل على مهارة الخطيب في العثور على الخيط الموصل الى المتلقي، وهذا هو ما عمله قس بن ساعدة في خطبته في سوق عكاظ، وأكثم بن صيفي، وعبد المطلب بن هاشم في خطبهما, وقد اهتدى الأدباء الى الوسائل التي تصنع خيوط التواصل فقُبِل أدبهم، ومن تلك الوسائل ارتباط العمل الأدبي بالحياة الاجتماعية التي يعيشها المتلقي، فكلما ارتبط العمل الأدبي بالحياة الاجتماعية ضمنت سيرورته وانتشاره، ولذلك اشتهرت النقائض بين جرير والفرزدق في العصر الأموي، وأصبحت هي حديث الناس في المجالس، ومن تلك الوسائل قرب العمل الأدبي من معارف المتلقي وثقافته، فإذا أودعت المعارف في الشعر أو النثر قَرُبا من المتلقي وولَجا الى قلبه، لأن المستمع يجد نفسه فيما يسمع بأحاسيسها وخلجاتها, ومن الوسائل اختيار اللغة المقبولة والقريبة من المتلقي، واشادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشعر زهير تبين اثر اللغة في المتلقي، فقد قال عمر بن الخطاب زهير لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل في المنطق ومن الوسائل قدرة الأديب على احتواء الأداة القادرة على نقل قوله الى المتلقي، ونقصد بالأداة مجموعة الأمور المتقدمة، بحيث تبرز مهارة الأديب في صنع علاقة مرنة تضمن لقوله القبول والاذاعة في الناس، وبعض الأدباء يضيف الى تلك الأمور سرّاً من اسرار عبقريته يضمن لشعره القبول بين الناس بيسر وسهولة مثل المتنبي في معظم شعره، فالمتنبي يشترك مع الشعراء في الأمور المتقدمة، ولكنه ينفرد بسر لا يهتدى اليه، وهذا السر هو الذي ضمن لشعره القبول والانتشار,
وإذا كان العمل الأدبي يجد طريقه الى القلوب سهلاً ميسراً في العصر الجاهلي والعصر الاسلامي، فإن هذا الطريق اعتراه شيء من الوعورة في العصر العباسي، عندما تساهل بعض الأدباء بخيوط التواصل، فأقحم في عمله الأدبي شيئاً من الثقافات الأجنبية مثل ابي نواس في قوله:
سَخُنتَ من شدة البرودة ح
تى صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي
كذلك الثلج بارد حار
فليس في الثقافة العربية شيء يسخن من شدة البرودة، ولم يعرف العرب ان الثلج بارد حار, وعندما قال أبو تمام:
رقيق حواشي الحلم لو ان حلمه
بكفيك ما ماريتَ في أنه بُرءُ
ما فهم قوله لأن الحلم يوصف بالرجحان والعظم والرزانة والثقل، اما اذا وصف بالرقة فهو ذم كما قال عياض بن كثير تنابلة سوق خفاف حلومهم ومن وصف الحلم بالثقل قول الفرزدق أحلامنا تزن الجبال رزانة,
د, عبد العزيز بن محمد الفيصل


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved