يكفي هذا التنحوي
أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبد الرحمن: مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن ترك المراء وإن كان محقاً، ووعده بالأجر الجزيل,, بيد أن الدكتور عبد الرزاق فراج الصاعدي من طيبة الطيبة ألح على المراء، وكان هو المبتدىء، ولم يكن محقاً، بل كان والله - قسماً براً - مخطئاً مخطئاً,, وفي كل مرة يستدل يأتي بخطأ جديد,, ولعله أراد بهذا الإلحاح التعمية على الطلاب حتى لا يكون مهزوماً في نظرهم، فلا يفقد إعجابهم,
قال أبو عبد الرحمن: ومسألة النحوي، والمتنحوي قد طبخت ونضجت واحترقت وأكلت حتى صارت رجيعاً!! وبياني فيها كان جلياً واضحاً,, لا شبهة ألبتة في استعمال المتنحوي بمعنى المتعمق في علم النحو حقيقة، أو المتكلف علمه ادعاء,, وليس ترك المراء من جانبي، لأكون مشكوراً شرعاً في تركه، بل أنا أمام شغب يتجدد ويتنوع، ولا يسعني إلا جلاء الشغب استجابة لمطالب العلم، وأداء لأمانته، فقد بليت بمن يقول: 5x5=10,, والعلامة علامة ضرب!! وكان الصاعدي يتنقل بردوده من جريدة المدينة,, إلى المجلة العربية,, الى مجلة المنهل؛ لعلي لا أطلع على آخر كلمة منه، فيقول الطلاب: سكت الظاهري، فهو محجوج!!,
ومقالته الأخيرة في مجلة المنهل عدد ذي الحجة سنة 1418ه ص 122 - 123 قدم له بربع المقالة تقديما لا تقتضيه ضرورة، ولا يسوغه جمال أدبي!!,
قال الدكتور الصاعدي عن أغلوطات جديدة وقعتُ فيها بزعمه: منها أنه ينكر أن يكون تنحى دالاً على التعمق في النحو؛ لأنه ينكر أن يكون تنحى مشتقاً من النحو الذي هو العلم المصطلح عليه,, وهو يرى أنه لا سبيل إلى تأدية المعنى الذي أراده إلا بأن يقال: تنحوى فهو المتنحوي,, وهذه من غرائب الشيخ، لأن تنحى يؤدي المعنى,, وفوق ذلك هو القياس,, كما يؤديه تفقه من الفقه، وتأدب من الأدب,, والفقه والأدب مصطلحان مستجدان كالنحو,
أما من يفهم أن تنحى بمعنى ابتعد فحسب ففقهه قاصر، لأن الصيغة الصرفية الواحدة تؤدي عدداً من المعاني المختلفة,, ولا يمكن أن يصاغ من كلمة النحو صيغة تنحوى إلا عن طريق الإلحاق الذي بينته فيما سبق، فالقياس أن يقال من النحو: تنحى,, كما يقال من الأدب تأدب,, فإن أراد صيغة الإلحاق من الأدب قال: تأدبب!!,, وكذلك يقول من النحو: تنحوى,, وأصلها: تنحوو,, ثم تقلب الواو ألفاً على النحو الذي فصلته سابقاً ,
قال أبو عبد الرحمن: التسوية بين الفقه والأدب والنحو في الاشتقاق المعنوي تسوية بين مختلفين,, وعلى لغة الأصوليين قياس مع الفارق، ولذلك حديث يأتي ان شاء الله,, والجواب العاجل هاهنا من وجوه: أولها: ان الصاعدي كحصان الجرف العزوم الغاضب على اللجام,, جلَّح تجليحة صلعاء عندما قال: لأن الصيغة الصرفية الواحدة تؤدي عدداً من المعاني المختلفة ,, قال ذلك تسويغاً لتحويل صيغة متكلف النحو من الفعل تنحى !!,, والغلط الشنيع في هذا هو ظن الدكتور أن معنى الصيغة يحول معنى المادة الى معنى آخر؛ فوارحمتاه بلغة العرب إن كان هذا هو فقه بعض المعاصرين المدعين التخصص بها!!,, وواضيعة الأعمار إذ خلف الثعالبي وابن فارس وأبا علي الفارسي وابن جني من يفهم لغة العرب بهذا الفكر المرسل البريء من معهود الإعجاز والفروق!!,
قال أبو عبد الرحمن: الصواب في هذا أن لغة العرب: مفردات مواد، وأوزان صيغ، وروابط حروف معان,, وتركيب جمل يحكمها علم النحو، وعلم البلاغة، ثم دلالات السياق، والقرائن، ومعهود خطاب المتكلم,, ويتدخل في كل ذلك استنباط العقل، واستقراء الحس,
فالصيغة مثل فاعول - مهما تعددت معانيها من الاسمية المحضة، أو الوصف، أو الآلة، أو المبالغة -: لا تجعل ساطوراً بمعنى فاروق، ولا تجعل كافوراً بمعنى ماطور ودافور وهما من موجدات الحضارة الحديثة,, هذا عند تعدد المواد من ماطور، وساطور، وفاروق,, إلخ على صيغة واحدة هي الفاعول ,, كما أن الصيغة الواحدة - مهما تعددت معانيها - لا تنقل معنى من معاني المادة الواحدة الى معناها الآخر؛ فالبار بتشديد الراء صيغة اسم فاعل لا تجعل البر بضم الباء بمعنى البر بكسر الباء,
إن تعدد معاني الصيغة مهما كثرت معانيها انما هو في نطاق معنى واحد لا غير من معاني المادة,, وتعدد معاني الصيغة ليس تعدداً لمعنى المادة، وإنما هو تعدد لأحوال المعنى الواحد وعلاقته بغيره، فالفعيل مبالغة في الفاعل، والمفاعلة لتتابع الحدث من طرف واحد مثل سافر، ولتتابع الحدث من طرفين فأكثر مثل ساير، وفعل للحدث الماضي، وافعل للحدث المراد إيقاعه، والفاعلون لبيان أن القائمين بالحدث عدة أفراد، والفاعلة لتأنيث المؤدية للحدث,, فإذا كانت المادة قام فهي على معناها في كل هذه الصيغ لا تنصرف باختلاف الصيغ إلى معان أخر,, إنما الذي تعدد بتنوع الصيغ أحوالٌ لمعنى المادة من سهولة وتكلف، وزمان ومكان، وكثرة وقلة,, كما تعددت أحوالٌ لذي علاقة بالمعنى من الفاعل والمفعول به,, إلخ,
والدكتور وصفني بقصور الفهم؛ لأن هذا البيان الجلي المشرف عن معنى المادة ومعاني الصيغ هو لازم ونتيجة تأصيلي!!,
ووصف نفسه بكمال الفهم - من لازم الصفة المضادة التي أسبغها علي اسبغ الله عليه نعمة التعلم قبل التكلم -؛ لأن لازم كلامه ونتيجته أن تعدد معاني الصيغة يجعل معنى المادة متعدداً,, وذلك طلب لمحال لا يوجد شاهده ألبتة!!,, وعلى هذا تكون صيغة تنحى تجعل المادة بمعنى تكلف علم النحو,
وأسبغ علي مرة أخرى وصف الإغراب فقال: من غرائب الشيخ ,, يعني منعي دلالة تنحى على التعمق في علم النحو، أو تكلفه ادعاء,, ونقيض هذا الحكم أن يكون الدكتور مع المشهور غير الغريب!!,, ولا أطيل معه الجدل، بل أقول له: أحلني إلى أي معجم لغوي، أو قولة عالم معتبر، أو قولة طويلب علم لم يتبين بعد اعتباره,, أحلني إلى أي واحد من هؤلاء قال: إن تنحى بمعنى تعمق في علم النحو، أو تكلف التظاهر به؟!,, فإن لم يفعل فهو المغرب بالخطأ حقاً، ويبقى مع الصواب المشهور من قال: تنحى بمعنى اتجه ناحية، أو ابتعد، ولا تدل على علم النحو ألبتة,, وذلك هو الظاهري لا الصاعدي!!,
إنني أدعو الدكتور الصاعدي إذا تمادى في المراء والحمية لغلطاته الصلع أن يشفق على نفسه، فيطرح ما خطر على باله من أوهام، ووساوس، وظنون مرسلة بصيغة سؤال المسترشد لا بإملاء المتمعلم، ولا يتطاول بالتخطئة، وتزكية النفس، ووصف المحققين بقصر النظر؛ فطريق الشهرة أكرم من ذلك,, وكم من طالب علم لغير وجه الله، فتحول علمه بالرياضة إلى طلب العلم لوجه الله,, وردت هذه الكلمة صراحة بقلم أبي حامد الغزالي، وقد مرت عليَّ لعالم أسبق منه زمناً,, وتلك الشذرة من شذرات لفتها سحائب النسيان!
وثانيها: نعم - ومليون نعم - أنكر أن يكون فعل تنحى دالاً على التعمق في النحو، أو تكلف التمعلم فيه,, بل هي بمعنى ابتعد، أو أخذ بناحية,
وثالثها: لو كان قصدي مجرد الغلبة، وأن أخطف الصاعدي من أول طريق لقلت له منذ البدء: تنحى لا علاقة لها ألبتة بنحا؛ لأن نحا من الواوي، وتنحى من اليائي، فهما مادتان,, ولو فعلت لأسكته إلى الأبد؛ لأن أهل المعاجم مجمعون على الفصل بين معاني الواوي واليائي، ومجمعون على أن علم النحو من الواوي، وأن تنحى من اليائي، فلا وجه ألبتة لاستعمال المتنحي بمعنى المتعمق في النحو؛ لاختلاف المادتين,, ولن يبق للصاعدي كلام بعد هذا الإجماع,
قال أبو عبد الرحمن: إلا أنني صاحب نظر، وتأصيل، وتدقيق فكري لا أحجر على من تكلم ببرهان، وإن خالف المتوارث,
والذي أحققه أن الواوي واليائي يجمعهما معنى اشتقاقي واحد كما سيأتي بيان ذلك,, ومع وجود المعنى الاشتقاقي الواحد فإن النحو مأخوذ من المعنى الفرعي المتعلق بالواوي، وليس مأخوذاً من الفرع الثاني المتعلق باليائي الذي منه المتنحي,, إذن الصاعدي محجوج بكل تقدير,
ورابعها: أن العرب لا يعرفون قواعد النحو، وانما يتكلمون سليقة، ولم يصطلحوا بالنحو اسماً لهذا العلم المستجد عندهم,, وإنما نسب الأزهري إلى اليونان - لا إلى العرب - أنهم يسمون علم الألفاظ والعناية بالبحث عنه نحواً,
قال أبو عبد الرحمن: هذه المواضعة عند اليونان، وليست هذه المواضعة على كلمة نحو بحروفها المعروفة لدينا، وإنما اللفظ عندهم الدال على علم النحو ترجم الى كلمة النحو الدالة على نفس العلم الذي عندهم, فالذي عند اليونان علم النحو,, كانوا فيه اقدم من العرب,, وليس الذي عندهم كلمة نحو بل الذي عندهم رطانة ترجمت الى النحو بعد ان كان مصطلحاً عند العرب على هذا العلم؛ ولهذا قال الأزهري: فيما يذكر المترجمون العارفون بلسانهم ,
واذن فالعرب - قبل وجود هذا العلم عندهم - إنما يعبرون بمادتي الواوي واليائي للقصد والابتعاد,, والنحو مصدر لم يتخصص بتسمية؛ فلما تخصص باسم لشيء معين كان ذلك المعين معنى آخر غير الابتعاد والقصد والاتجاه,, إنه قواعد، ومسائل، وامثلة، وفصول، وأبواب لا تدل على فعله صيغ ما قبل الاشتقاق، فاحتيج أن ينحت من اسمه فعل يعبر عن المراد,
والعلماء يقولون: النحويون - نسبة إلى النحو - ,, ولا يقولون: المتنحون,
وخامسها: أنه جاء بأبدة ثانية أنست ما قبلها، فقال: القياس أن يقال من النحو: تنحى ؟!!,
قال أبو عبد الرحمن: يا أخي,, يا أخي: أي قياس في صرف نحا الواوي إلى تنحى اليائي؟!,, وأيضاً: فالنحو في الاشتقاق قصد إلى هذا العلم,, والتنحي ابتعاد، فكيف يوصف المتعمق في النحو بالابتعاد عنه؟,, وأيضاً: فالنحو مشتق من الواوي بإجماع,,
وأيضاً: فلم يؤثر عن عامي أو فصيح استعمال المتنحي بمعنى صاحب النحو,, بل وفق الله العوام، وطلبة العلم في منطقتنا الوسطى إلى استعمال التنحوي بمعنى احتراف النحو نطقاً بسليقة في النحت كالتفلسف من الفلسفة مع أن المادة ليست من لغة العرب، ولا من تعريبها، بل من نقلها للفظ الأجنبي برمته، وتحويله إلى صيغها,, وإلى مناسبة أخرى، والله المستعان,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved