على الهامش
التشكيل بين الضربة والمعادلة والقراءة الشعرية
حسين المناصرة
تساؤلات كثيرة مهمة يمكن ان تنشأ في مجال تقنية الفن التشكيلي المعاصر وعلاقته بالمتلقي سلبا او ايجابا,, ولعل ابرز هذه التساؤلات ذلك التساؤل الذي يحاول من خلاله المثقف التشكيلي المتابع للحركة التشكيلية ان يستبطن مدى ما في تلك اللوحات التشكيلية بمختلف مدارسها من صياغات موهبية معينة يمكن ان يطلق عليها ضربة يد الفنان التشكيلية اللاشعورية في تشكيل اللوحة، هذه الضربة التي تحمل في العادة ابعاد العفوية والمصادفة واللحظة غير المقننة والارتجال في اللون,, او بمعنى اخر من المعاني استعارة الاشتغال الالهامي السائد في المقولات الشعرية لتصبح مقولات تشكيلية، يبدو من خلالها الفنان التشكيلي مثله مثل الشاعر الذي قد لا يعرف كيف خرجت من بين اصابعه هذه اللوحة او هذا اللون، او تلك الحركة بمثل هذا التشكل اللوني المرئي في لوحة معينة او لوحات عديدة، الامر الذي يفضي بالتالي الى ابعاد او تقزيم اية ديناميات او آليات فنية او معادلات مبرمجة مسبقة اعتمدها الفنان التشكيلي لصياغة لوحته او لوحاته لتمسي هذه اللوحة/ اللوحات ضد هندسة المعادلات الفنية التشكيلية الواعية,
ويبقى الفنان التشكيلي نفسه من الناحية النفسية شعوريا ولا شعوريا هو الاقدر على التعريف بهذا الجانب الالهامي في لوحاته، خصوصا ان الخطاب التشكيلي اصبح اكثر شيوعا من الشعر او القصة القصيرة، لان كل انسان عرف القراءة والكتابة وتعلم في المدرسة مارس التشكيل والرسم بصورته العامة الاكثر انفتاحا بعد ان اصبح هذا الفن جزءا من الخطاب المدرسي التعليمي الممارس من كل طفل او طالب، في الوقت الذي لم يكن هناك مقرر ما لتعليم كتابة الشعر او القصة في المنهاج المدرسي العربي الذي احتفل بالمقال من خلال كتابة الانشاء ,
وكلنا يشعر احيانا بقدرات كبيرة لدى الاطفال وهم يمارسون الرسم او التشكيل الاكثر تعقيدا، مما يؤكد لو افترضنا جدلا استمرار كل طفل بممارسة فن الرسم الذي غالبا ما يكون استجابة لمحاكاة الحياة ، لاصبحت الامة كلها ذات ثقافة تشكيلية مشابهة لثقافة النظر الى التلفاز ولاصبحت المواهب التشكيلية اكثر بكثير مما هو موجود في الساحة التشكيلية الان، والتي تتهم في احيان كثيرة انها غير مفهومة وغير تواصلية وممتلئة بالصنعة والرموز,, الخ,
وعلى اية حال، فاننا من خلال اية عفوية او موهبة او الهام، او اية تسمية اخرى مشابهة، تنجز في تكوين الفن التشكيلي، نشعر باصالة التشكيل الحقيقي الذي يضعف من مقولات الصدفة الشائعة في الصياغات التشكيلية على سبيل الحقيقة او السخرية، وذلك كأن تكون لوحة مهمة تشكلت نتيجة لسقوط نقطة ألوان بشكل عفوي على لوحة ، او من خلال اندلاق زجاجة لون سائل على اللوحة، او عن طريق عبثية خلط مجموعة من الالوان ثم القذف بها صدفة الى اللوحة,, الى اخر ذلك من حركات تشكيلية قد تجسد اهمية العفوية المنسجمة مع الالهام في التشكل من جهة، ولكنها في الوقت نفسه تحيل الفن التشكيلي الى سياق من سياقات الجنون او العبث ، مما يشعر بفوضوية التشكيل فوضوية لا تقل مأساوية عن أي تصور آخر ينتجه القارىء السلبي تجاه اي جنس ابداعي او فني ينظر اليه من منظار البنية الاستهلاكية للثقافة المباشرة في المجتمع على انه غير مفهوم وغير صالح، وقد يصل الامر في احيان كثيرة الى هيمنة القيم السلبية تجاه الفن والفنانين والادب والادباء، فيصور هؤلاء على اساس انهم لا يستحقون اوسمة الحياة المادية المكرّسة في الموضة، لانهم بطريقة او بأخرى فوضويون او عبثيون او مجانين ، وفي احسن الاحوال غير مفهومين,, ليجيء الاحتفال المبالغ فيه بعد ذلك بمطربة، تُفرض علينا، ولا تملك غير صوتهاوجمالها، او الاحتفال بمطرب يبث لغة الوجد المبتذلة المراهقة,,!!
الا انه في كثير من الاحيان يصعب على القارىء التشكيلي المثقف ان يحدد ابعاداً جمالية ما في اللوحة السيريالية او التجريبية مثلا، مقابل انسجامه المعرفي اللوني في تحديد ملامح اللوحة التعبيرية او لوحات المحاكاة للواقع عموما، والتي قد تصبح مثل هذه اللوحات اقل جمالية من التصوير الفوتوغرافي، لكنها ستبقى تشعر بوجود دينامية اللون القائمة على اشتغال يد الانسان الفنان، ومن الممكن ألا يصل الشغل الى القارىء العادي، لان مثل هذا القارىء لا يتفاعل الا مع موضوع اللوحة وشكلها الظاهري، ولا ينشغل بآلياتها الفنية المنجزة من خلال اللون وتشكيلاته والمساحات الفارغة والممتلئة في اللوحة,, الخ,
هل التشكيل فن ارتجالي ام فن مدروس؟!,
ان المقابل للنمط الارتجالي الموهبي في ممارسة التشكيل هو النمط الاخر الاكثر اهمية، الفاعل في صياغات التشكيل الثقافي ممارسة وقراءة، وهو نمط قد لا يخفي على احد، لانه يتعلق ببحث مسألة التشكيل من خلال الفن المدروس والمعادلات المنظمة التي تدفع بالفنان لادراكها؛ ليعرف المعادلة بين الضوء والظل والابيض والملوِّن، والظاهر والغائب، والمباشر والايحائي الى اخر ذلك من ثنائيات تحضر في ممارسة الابداع الثقافي ايا كان نوعه,, مما يعني لدى بعض الفنانين والمثقفين الحد من فاعلية الضربة في الفن الحقيقي,, والحد ايضا من المفاهيم المغلوطة في دائرة قراءة الفن التشكيلي, وفي الوقت نفسه يدفع مثل هذا الفن الواعي الثقافي الى ضرورة البحث عن القراءة التشكيلية النقدية المتقدمة والمعمقة لمفردات التشكيل النقدية لا للمفردات الاستعارية من فضاءات الشعر والسرد والدراما,, الخ,
يتوقف بعضنا في معرض تشكيلي ما، فيشعر انه امام لوحات تشكيلية مأخوذ بجمالية سحرية لا تجعله يمل من النظر الى مثل هذه اللوحات,, لكننا في المقابل لا نستطيع ان ننظر في لوحات اخرى اكثر من عدة ثوان، تكون كافية لتكوين موقف سلبي تجاه نمط معين من التشكيل ,
وهنا يجب ان نميز بين قارىء واخر، وبين مزاج واخر، وبين فن واخر ايضا، لان اية حركية ثقافية في اي جنس فني او ادبي هي حركية محكومة بالتعددية والاختلاف في المنهج والرؤى والادوات، بين مستويات القراء، وايضا مستويات الفنانين، وغالبا ما يكون القراء المثقفون ثقافة منفتحة شاملة مجرّبة غير منحازة هم الاقدر من أي قراء اخرين على تجلية الفن الحقيقي الذي هو دائما الاقل انتشارا من الفن الزائف الذي يمكن ان ينتشر عن طريق اثارة القراء العاديين بما يستهويه هؤلاء القراء، كما يحدث في المسرح التجاري، والشعر الغزلي، وفي الاغنية العاطفية,
علينا ان ندرك ان الفنون التشكيلية فنون عالمية؛ لها لغة واحدة يتكلمها كل الناس مهما تعددت لغاتهم الاجتماعية، ومن هنا يصبح الفن التشكيلي على نقيض الادب المقيد بلغات معرفية مسبقة، وما دام الفن التشكيلي لاتحده حدود لغوية تمنعه من المرور أنّى شاء، بل يمكن ان ينتقل ويتواصل مع كل اللغات بطرق عديدة، فانه يتوجب على نقاد هذا الفن ان يتحرروا من المصطلحات النقدية الشعرية السائدة في مقارباتهم، لتصبح لدينا كقراء عاديين ثقافة تشكيلية تتجاوز الثقافة التي مازالت سائدة عندما نتصور اللوحة التشكيلية قصيدة شعرية علينا ان ننتجها من خلال الصورة الفنية والايقاع الموسيقي والايحاء اللغوي، والتكثيف الشعري، والموسيقى الداخلية، والتوترات النفسية,, فهل هناك ثقافة نقدية تشكيلية خالصة مناقضة لما يشيع في الثقافة النقدية الشعرية التي غالبا ما تجرُّ عنوة بطريقة آلية للتطبيق في فضاءات السرد والدراما والتشكيل,,، مما يعني الحد من تفعيل خصوصيات هذه الاجناس لصالح تعميم مقولات الثقافة الشعرية التي هيمنت، ومازالت تهيمن على الثقافة النقدية العربية، بحكم ان الشعر هو فن العرب أو ديوانهم الاول وان التشابه والتراسل ما بين الشعر والاجناس الاخرى يعني لكثير من النقاد المدرسيين الكلاسكيين تحقيق جمالية او عدم جمالية الاجناس من خلال جمالية الشعر التي ترسخت في المفاهيم الذوقية والانطباعية وهي ترى اللغة الشعرية اجمل مستويات اللغة على الاطلاق,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved