الصادق شرف والنقد الهامشي
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
لا غضاضة في التنذر بمصطلحات العلل والزحافات التي قال عنها الصادق شرف: مفردات تراكمت كقطع غيار مهترئة تكدست كومات من الصدأ لا مكان لها إلا في قاموس صالح للتذويب، وإعادة السبك للتخلص من هذا الركام، الخزم، والخرم، والثرم، والثلم، والشتر، والخرب، والعضب، والقصم، والجَمَمُ، والعقص، والترفيل، والتذييل، والقطف، والقطع، والجذَذ، والصلم، والكسف، والتشعيث,,, مصطلحات تجاوز عددها 170 مفردة!!,, كلّ هذه الأسماء جاء أوان تجاوزها على كثرتها لتشعبها إلى درجة أنها تصير مستعصية على الحفظ والفهم والهضم، رافضةً التعامل مع القارىء والطالب والأستاذ؛ فكأنما هي عالم معقد ليس كمثله عالم الذرة، أو كأنما بعلم العروض سنصنع مركبة فضائية لاكتشاف مجاهل الفضاء، فليكفكف علم العروض لو صح أن نسميه علماً من غلوائه فليس هو أكثر من سمّاعة نصغي بها إلى دقات قلب الشعر، ولا هي أكثر من وسيلة لقياس بعض الكلام في زمن فيه نحن في حاجة إلى الإيمان بالفعل أكثر من الإيمان بالكلام 1 ,
قال أبو عبدالرحمن: هي والله لا قيمة لها ما دمنا نفقد سماع الألحان العربية التي يكون بأنغامها الثابتة المزاحفات والعلل، ولا داعي إلى كل هذه التسميات، بل يكفي إثبات رمز الحركة والسكون، أو وزن التفعيلة، وأن نعرف من مأثور الشعر العربي ما كان لازماً أو جائزاً من تلك التفعيلات,, وما دمنا نعلم علم اليقين - كما أفضت في ذلك بدراساتي العروضية - أن الزحافات والعلل تقطيع بصري وفق النطق العربي السليم، وأن اللحن العربي الضائع يردها بلا ريب إلى تفاعيل ليس فيها زحاف ولا علل بخلل في النطق العربي وسلامة في الأداء الغنائي: فمن اليقين أيضاً بأن واقع اللحن قمين بتحديد وزن لا يتسع لكل تلك المصطلحات؛ ولهذا نحرص على تلحين ما نبدعه من شعر على الأوزان المأثورة وغير المأثورة؛ فلا يكون عندنا زحاف ولا علل، بل يكون الوزن المطاوع للحن,, واللحن هو الذي يضمن لنا الكلمة الموسيقية,
قال أبو عبدالرحمن: وإذ رأيتُ أنه لا غضاضة في استعلاء الصادق شرف على هذه المصطلحات: فلا يعني ذلك التحرر من القاعدة التي غايتها أن تحقق العنصر الموسيقي في الشعر الذي هو شرط هويته في عرف الأجيال، وقد أخل الأستاذ الفاضل بهذا المطلب مرتين عندما حلل وزنياً قول السياب:
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
الأولى عندما جعل نون تطيفان غير مشبعة بكسر، فكان الوزن عنده: مفاعلن - مفاعلن - مفتعلن - فعل,
والواقع أنه أخل باللحن المنسجم مع المقطع كله,, والواقع أيضاً أن الوزن هكذا: متفعلن - متفعلن - مستفعلن - فعل,
لأن نون تطيفان مشبعة بكسر,
والثانية حكمه بأن تفعيلة الرجز تتكرر في الشعر الحر بلا حصر حسب رغبة الشاعر 2 ,
قال أبو عبدالرحمن: هذا هو الضلال الفني في تدفق الشعر الحر، ومطلب القيمة الجمالية أن لا يتقيد الشاعر بعدد من التفعيلات من مأثور الشعر، ولكن بشرط تحقيق لحن، وبشرط استقرار عدد من الأشطر على لحن يشكل بلغة الفنانين كوبلية، مع نقلة لحنية بين كوبلية وكوبلية,, فإن لم يتحقق ذلك فقد الشعر مصطلح هويته، وهو تحقق العنصر الموسيقي الخارجي,
وحشد الأستاذ الصادق جملة من خصائص الشعر الحر الشكلية البحتة؛ فقال: وقد تميزت قصيدة الشعر الحر بخصائص أسلوبية متعددة؛ فقد اعتمدت على الوحدة العضوية؛ فلم يعد البيت هو الوحدة، وإنما صارت القصيدة تشكل كلاً متماسكاً، وصار الشاعر يعتمد على التفعيلة وعلى الموسيقى الداخلية المنسابة بين الألفاظ,, وقد استغنى شعراء هذا الاتجاه عن التشابيه والاستعارات والوصف، واعتمدوا على الصورة المركبة أو الصورة الرمز، وصارت الألفاظ بسيطة سهلة سلسلة معبرة كل التعبير,, وقد أفاد الشعر الحر من الأساطير والحكايات الشعبية، فأدخل رموزها في القصيدة الحرة 3 ,
قال أبو عبدالرحمن: ليست الوحدة العضوية من ابتكار شعر الحداثة، بل هي خصيصة في الشعر العمودي الحديث,
وهكذا الموسيقى الداخلية لها روادها في الشعر العمودي القديم كالبحتري، والعمودي الحديث كعلي محمود طه,, وثق أن هؤلاء يعتمدون الغناء في شعرهم وإن كانوا في دائرة الأعاريض الخليلية؛ فلا يحقق الموسيقى الداخلية غير غناء الشاعر بشعره, وليس بصحيح أن شاعر الحداثة استغنى عن الوصف والتشبيه والاستعارة، وإنما الصواب أنه أضاف إلى مأثوره الاعتماد على الصورة والرمز وتوظيف الأسطورة,
وذكر الصادق قول السياب: هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحديث,, هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة,, إلى الرموز,, ولم تكن الحاجة إلى الرمز,, إلى الأسطورة أمسّ مما هي اليوم؛ فنحن نعيش في عالم لاشعر فيه,, أعني أن القيم التي تسوده قيم لاشعرية، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح، وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها,, أن يحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحداً فواحداً، أو تنسحب إلى هامش الحياة,, إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعور لن يكون شعراً؛ فماذا يفعل الشاعر إذن؟,, عاد إلى الأساطير,, إلى الخرافات التي ماتزال تحتفظ بحرارتها؛ لانها ليست جزءاً من هذا العالم,, عاد إليها ليستعملها رموزاً، وليبنيَ منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد,, كما أنه راح من جهة أخرى يخلق أساطير جديدة وإن كانت محاولاته في خلق هذا النوع من الأساطير قليلة حتى الآن 4 ,
ثم زعم أن وظيفة الأسطورة في شعر بدر غير واضحة تماماً، وأنه حاول أن يفسر لجوءه للأسطورة فما وجد مسوغا مقنعاً,, وجعل كلام السياب المذكور آنفاً برهاناً على تلك المحاولة 5 ، وقال ناقداً للسياب في توظيفه الأسطورة: والحقيقة أن عدم تحديده لوظيفتها بوعي من جهة، واعتبارها نقيضاً للواقع من جهة ثانية: جعله غير قادر على الاستفادة منها دائماً,, إن الاسطورة التي تغني الشعر هي الأسطورة التي تندمج بالتجربة الشعرية، لا التي تكون واجهة قصيدة,, والأسطورة لكي تغني الشعر يجب أن تكون قادرة على استثارة المتلقي,, بينما حشد السياب من أساطير الهند والصين واليونان وأوربا ما لا يثير في القارئ العربي أي إحساس,, وإذأ كان إليوت يستخدم مثل هذه الأساطير فهو يستخدمها لقارىء هي جزء من حضارته وتاريخه، وتثير فيه أحلاماً بالبطولة والبراءة في عالم الذهب والحديد، الذي ذكره بدر,, إن هذأ العالم ليس عالمنا، وإن هذه الأساطير ليست أساطيرنا، وما زال في واقعنا غنى يغنينا عن غنى الأسطورة 6 ,
قال أبو عبدالرحمن: ليس في كلام السياب المذكور آنفاً محاولة عاجزة لتفسير لجوئه إلى الأسطورة، وإنما في كلامه إيضاح مدى الحاجة إلى الأسطورة؛ فأي عجز يتصف به التفسير ها هنا؟!,
ومن العجب زعمه أن السياب لم يحدد وظيفة الأسطورة، فما أرخص هذه الدعوى أمام قول السياب الصريح: ليستعمل منها رموزاً، وليبني منها عوالم,,, ؟!,, فهذا نص واضح حدد وظيفة الأسطورة بأن تكون سعة في التعبير الرمز وثراء في المضمون العوالم,
وزعمه بأن السياب غير قادر على الاستفادة من الأسطورة من الأحكام المجانية المجملة، لم يزكها بدراسة تحليلية لنماذج من الأساطير التي استخدمها السياب تحليلاً يظهر صحة دعواه,
وليس من الضروري ما اشترطه الصادق من كون مهمة الأسطورة أن تندمج بالتجربة الشعرية، وتثير المتلقي,, كلا بل هذا جزء من وظيفتها,, ومن وظيفتها أيضاً أن تريح من ملل التعبير المباشر، والجملة الموروثة التي تتعلق بالذاكرة دون المخيلة,, فكونها سعة في التعبير قيمة في ذاتها مستقلة,
وليس من الشرط أيضاً أن تكون الأسطورة جزءاً من ثقافتنا، بل القدرة أن ننقلها إلى ثقافتنا، ونجعلها في وعي القارئ العربي,, على أن الصادق ها هنا أخل بالمنهج عندما أباح لنفسه مرادفة ينبغي، ولا ينبغي ، وذلك قوله: يجب أن تكون مع أنه انتقد على الدكتور هدارة مثل هذا التقنين,
حواشي
،1- وزن الشعر الحر، ص55,
،2- المصدر السابق، ص78-79,
،3- المصدر السابق، ص111 عن كتاب الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر للدكتور عبدالحميد حيدة,
،4- المصدر السابق ص119 - 120 عن مجلة شعر/ العدد الثالث/ السنة الأولى، ص111 - 113, بعنوان: أخبار وقضايا,
،5- انظر وزن الشعر الحر ص119,
،6- المصدر السابق، ص 120,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved