رؤى وأفاق
أصحاب البدائه
البديهة سمة الذكاء وعلامة الفطنة، وأثر التوقد في الذهن؛ لا تصدر إلا عن بصيرة ودراية، وأصحاب البصيرة هم أصحاب البدائة، وأولئك لا يضيقون بالسؤال، ولا
يضجرون بما يوجه اليهم في المحافل ومجالس القوم، فأنفسهم قد جبلت على الاستجابة، وألسنتهم قد مرنت على القول السديد، لا يتلعثم واحدهم في القول، ولا
يتلجلج في الكلام، وقد وهبهم الله سداد الرأي، ونفاذ الكلمة، وإفحام الخصم في أسرع وقت، وأيسر قول، وهم كثر لا تحصرهم كراسة ولا تحيط بهم اضبارة، ولكنني
في هذه الكلمة سأذكر مشاهيرهم، بما عرف عنهم من بيت سائر، أو عبارة تناقلها الكتب عبر الأجيال، فيقف القارىء على ذكاء أولئك، وحسن تصرفهم في المواقف
المختلفة,
وهم موجودون في كل عصر ومصر، ففي العصر الجاهلي اشتهر امرؤ القيس بأجوبته على عبيد بن الأبرص الأسدي التي منها قول عبيد:
ما الحاكمون بلا سمع ولا بصر
ولا لسان فصيح يعجب الناسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الموازين والرحمن أنزلها
رب البرية بين الناس مقياسا
كما اشتهر عمرو بن معدي كرب بأجوبته السديدة، وفي الإسلام حفظت أقوال أصحاب البدائه في الكتب، فهي كثيرة ومتنوعة، ومن الكتب التي نقلتها الينا الكامل
للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والعقد الفريد لابن عبدربه، والأغاني لأبي الفرج الاصبهاني، ويتيمة الدهر للثعالبي، ودمية القصر للباخرزي، والخريدة
للعماد الأصبهاني، والعمدة لابن رشيق، والذخيرة لابن بسام،وغيرها, ومن أشهر أصحاب البدائه في الاسلام: عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب، فكان يوجه إليه
السؤال في الحديث أو في الفقه، أو في الأنساب، أو في الشعر، أو في أيام العرب،فيجيب على البديهة بما يقنع السائل، وقد عرف عنه ذلك، واشتهر به، ومنهم
الشاعر الفرزدق؛ فقد كان يتقدم على الشعراء الذين يحضرون مجالس الخلفاء في سرعة الجواب وسداد الرأي، وقد يكون من الحاضرين جرير والأخطل، ومنهم عروة بن
أذينة، فقد عرف بسرعة الجواب، مع لطف في القول ، ورقة في الشعر، ومنهم ابوتمام، فعندما ألقى قصيدته في احمد بن المعتصم التي مطلعها:
مافي وقوفك ساعة من باس
نقضي ذِمامَ الأربُعِ الأدراسِ
ووصل الى قوله:
إقدامَ عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال يعقوب بن اسحاق الكندي -وكان في المجلس- الأمير أكبر في كل شيء ممن شبهته به، فقال على البديهة:
لا تنكروا ضر بي له من دونه
مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلا من المشكاة والنبراس
ومنهم المتنبي فقد كان حساده يوجهون إليه أسئلة في اللغة مما له صلة بشعره فيجيب على أسئلتهم على البديهة، فيكون جوابه مقنعا ومفيدا، وإياس بن معاوية قاضي
البصرة عرف بالذكاء والفطنة وحسن الجواب على البديهة بدون اعداد سابق، واشتهر عن بشار بن برد سرعة الجواب في سداد رأي، كما عرف أبونواس ببديهته، وكان
معتدا بنفسه في هذا الشأن، فقد كان يوما خارج الكوفة فرأى غنما فاعترضها وأراد ان يحرج صاحبها فقال له:
أيا صاحب الذود اللواتي تسوقها
بكم ذلك الكبش الذي قد تقدَّما
ولكن الأعرابي كان من أصحاب البديهة أيضا فقال:
أبيعكه إن كنت تبغي شراءه
ولم تك مزاحا بعشرين درهما
وممن عرف ببديهته الحاضرة ابوالعتاهية وأبوالشمقمق، وعلي بن الجهم، وابن عبدربه، وابن حمديس، وقد كان ابن حمديس مع المعتمد بن عباد ،فمرا على ماء قد جعدته
الصبا فقال المعتمد:
نَسَجَ الريح على الماء زَرَد
وكان ينظر الاجازة ممن معه من الشعراء فسبقهم ابن حمديس وقال:
أي درع لقتال لوجَمَد
ومنهم محمد بن عمرو بن عطاء المعروف بالجماز الذي قال له الرشيد أجز بعد أن قال:
الملك لله وحده
فقال الجماز:
وللخليفة بعده
د, عبدالعزيز بن محمد الفيصل


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved