الأدب قبل الاصطلاح
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الوقفة الحادية عشرة في سياق كلامي عن معاني الأدب -مادةً، وصيغةً - قبل مصطلحاته: أن المفعلة تطلق مجازاً على مجاور المكان لا على
المكان ذاته,, ووجه المجاز المجاورة,, ومن ذلك المأدبة بفتح الدال بمعنى الوليمة، فالمراد بالصيغة مكان الاجتماع المحيط بالوليمة ومكانها، ثم أطلقت الصيغة
على ذات الوليمة، ووجه المجاز إطلاق المحل وإرادة الحال، فهذا مجاز آخر غير مباشر,, وهذا معنى قولي كثيراً مجاز بالواسطة ، وشرح ذلك: أن المأدبة اسم لمكان
الوليمة، ولكنه أطلق على المكان المحيط بمكانها تجوزاً، ثم أخذ من هذا المجاز إطلاق المأدبة على ذات الوليمة,
الوقفة الثانية عشرة: حديث إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن دخل فيه فهو آمن - بفتح دال المأدبة- فيه مجازان: مجاز لغوي، ومجاز أدبي,, فالمجاز اللغوي إطلاق
المأدبة على القرآن ذاته، والأصل الإطلاق على مكانه في الرَّق أو الصدر، وإنما أريد في المجاز اللغوي الأول مكان اجتماع الناس حوله مفردة ومعنى لسماعه
وفهمه، ثم انتُقل إلى المجاز الثاني، وهو الحال بالمكان المجتمع حوله من الصحيفة أو صدر القارىء والمفسر,
والمجاز الأدبي تشبيه غذاء القرآن للقلوب والأرواح بالوليمة التي تسمى مأدبة، ولهذا قال أبو عبيد القاسم بن سلام كلمة مليحة معبرة: شبه القرآن بصنيع صنعه
الله للناس,, لهم فيه خير ومنافع، ثم دعاهم إليه ,, إلا أنه قال ذلك في سياق ضم الدال، ولا يضير ذلك، لأن كلامه تفسير لجعل المأدبة -سواء أكانت بفتح
الدال، أم بضمها- اسماً للصنيع,
الوقفة الثالثة عشرة: أن قوله _ : إن هذا القرآن مأدبة الله: فتعلموا من مأدبته لا يختلف عن قوله _ : إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن دخل فيه فهو آمن ,,
وذلك من ناحية صيغة المفعلة كما مر بيان ذلك في الوقفة الثانية عشرة,
الوقفة الرابعة عشرة: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله تعالى-: وأما من قال: مأدبة يعني بفتح الدال : فإنه يذهب به إلى الأدب,, يجعله مفعلة
من ذلك، ويحتج بحديثه الآخر: إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن دخل فيه، فهو آمن ,
قال أبو عبدالرحمن: كلا الحديثين بمعنى الأدب، وهو هنا التخلق بهدي القرآن,, سواء أكانت مأدبة بفتح الدال، أو ضمها، وإنما جاء ذلك على التشبيه بالوليمة،
فالناس مدعوون إلى غذاء الأدب من مأدبة القرآن كدعوتهم إلى غذاء الوليمة,
الوقفة الخامسة عشرة: قال أبو عبيد: وكان الأحمر يجعلهما لغتين: مأدُبة الله ومأدَبته بضم الدال، وفتحها ,, ولم أسمع أحداً يقول هذا غيره، والتفسير الأول
أعجب إلي ,
قال أبو عبدالرحمن: لم يأت أبو عبيد رحمه الله بفارق بين معنى الصيغتين، وإنما ذكر في الأول أن صيغة مأدبة -بضم الدال- اسم للصنيع، فهذا بيان معنى
الصيغة,, وذكر في الثاني أن المأدبة من الأدب، فهذا بيان معنى مادة، فهو يذكر معنيين لشيئين، ولا يذكر معنيين لشيىء واحد,
وإذا كانت مفعلة - بضم العين- اسماً للمظروف، وكانت بالفتح اسماً للمظروف أيضاً مجازاً: فالنتيجة أن الصيغتين بمعنى واحد حيث التقى المعنى الحقيقي للمفعلة
بالضم بالمعنى المجازي للمفعلة بالفتح,, ولا يقال: إن ذينك لغتان، لأن معنى ذلك أن قوماً من العرب ينطقون بالفتح، وينطق آخرون بالضم، والمعنى واحد,, بل
الواقع أن العرب كلهم ينطقون الصيغتين بمعنى واحد، لما أشرت إليه من التقاء المعنى الحقيقي بالمجازي,
الوقفة السادسة عشرة: لكلام أبي عبيد محمل آخر- وهو الأرجح الأظهر-، وهو أن قوله: فإنه يذهب به إلى الأدب محمول على جعل المأدبة بالفتح مصدراً كالأدب،
فتكون المأدبة عنده بالضم اسماً للصنيع، وتكون بالفتح مصدراً كالأدب,, وهذا هو مذهب الزمخشري في نص كلامه الواضح الذي أسلفته,
قال أبو عبدالرحمن: هذا شيىء يسميه النحاة المصدر الميمي,, والمحقق أنه لا يوجد للفعل الواحد غير مصدر واحد,, أما ما يذكره اللغويون ويجرده النحويون من
سماع صيغ عديدة سمعت لفعل واحد، ووصفت بأنها مصادر له: فذلك خطأ شنيع متوارث,, توارثته القرون خلال أربعة عشر قرناً,, والمحقق أن مصدر الفعل واحد لا غير،
والصيغ الاخرى عملت عمل المصدر، فظنت مصادر من أجل ذلك، وذلك يقتضي كلاماً طويلاً أرجو أن أعان على إتمامه في تحقيق رسالة صغيرة خطية لدى عن معنى المصدر,,
تولجتُ في العمل فيها قليلاً ثم توقفت، لشواغل علمية أخرى,
الوقفة السابعة عشرة: لا معنى لقول الفيروز آبادي رحمه الله: المشهور في المأدبة ضم الدال، وأجاز فيها بعضهم الفتح ,
قال أبو عبدالرحمن: لا معنى لذلك، لأن العبرة بمراد المتكلم، فإذا أراد اسم المكان فالفتح لا غير، وإذا أراد اسم المكان المجاور لمكان المأدبة فالفتح لا
غير، وإذا أراد اسم الوليمة فالضم جائز بحقيقة الصيغة، والفتح جائز بمجازها، وقد أسلفت التقاء المعنى الحقيقي والمجازي هاهنا,
الوقفة الثامنة عشرة: جعل الصغاني رحمه الله المأدبة بالفتح مصدراً - وذلك في الحديث الشريف-، لأنها ليست من الطعام في شيىء,
قال أبو عبدالرحمن: أسلفت امتناع تعدد المصادر,, وكون المأدبة في الحديث ليست من الطعام في شيىء لا يحتم جعل المأدبة بالفتح مصدراً,, والواقع أن لها علاقة
بالطعام، وتلك العلاقة هي التشبيه الذي أسلفته من تفسير الإمام أبي عبيد رحمه الله,
الوقفة التاسعة عشرة: إذا قلت: فرار الفارس فلان من الحرب مثلبة له: كانت المثلبة ذاتها اسماً للفرار ذاته، لأنه مكان الثلب، ولكن العرب أرادوا المعنى
المجازي وهو المظروف أي كثرة العيب الذي هو مثلبة ، ولم يريدوا اسم المكان - وهو المعنى الحقيقي-، لأنه ليس كل فرار مكاناً للثلب، فكانت الاسمية للمظروف
مجازاً غالب الاستعمال لهذا الملحظ,
الوقفة العشرون: جاءت المفعلة للجمع مثل المسلحة والمشيخة,, وهذا مجاز، لأن الأصل مكان جمع شيوخاً، ومكان جمع سلاحاً كثيراً لا يحمله الواحد في العادة،
وإنما المراد الحالون من الشيوخ والمتسلحين,
الوقفة الحادية والعشرون: أسلفت أن اسم المكان يشمل ما كان الشيىء جزءاً منه كالحصباء جزء من المكان، والمكان محصبة,, وما كان محلاً لفعل الشيىء فيه، وليس
المفعول جزءاً من طبيعة المكان مثل المرقبة، لأن المراقبة تفعل فيه,, وكل ذلك في الاصطلاح النحوي اسم مكان,
الوقفة الثانية والعشرون: الصيغة اسم للظرف من المكان والزمان، والواقع أنها وصف لهما، فإن المكان موصوف بأنه مقبرة، والزمان موصوف بأنه مجاعة,, وقد يغلب
الاسم بعد الوصف، فالأرض موصوفة بأنها مقبرة، ثم يسمى ما حيز منها للمقابر مقبرة,
الوقفة الثالثة والعشرون: يأتي اسم المكان قاضياً بالفاعلية أو المفعولية، فيكون هذان المعنيان مجازين في الصيغة,, ووجه المجاز أن المكان ظرف لفعل يقع منه
أو عليه كوصف الكنى بأنها منبهة، فهذا للفاعلية,, وعبدِ مملكةٍ، فهذا للمفعولية,
الوقفة الرابعة والعشرون: تقول: تلقيت منك معتبة، فظن الزمخشري وغيره أن ذلك مصدر بمعنى العتب، وليس كذلك، بل المراد ذكر أمور أو أمر هو مكان للمعتبة،
وصيغة المفعلة كما مر تدل على كثرة المظروف بدلالة التاء، والمصدر كاسمه مصدر لكل حدث، فنزل منزلة المصدر بدلالة الكثرة، فسمي مصدراً تجوزاً,
الوقفة الخامسة والعشرون: الموهبة اسم مكان على بابها، لأنها مكان لهبة الماء بعد جريان السيل وتفرقه في الغدران، وغيابه في الثرى,
الوقفة السادسة والعشرون: أن المفعلة صيغة لظرفي المكان والزمان، ولكن شواهد اسمية المكان أكثر,
الوقفة السابعة والعشرون: لابد من الفصل بين المجاز اللغوي والمجاز الأدبي، كقولك: الصيد مسلاة للهم، فالمسلاة اسم مكان وهو الصيد، لأنه مكان ظهور السلو,,
وكون الصيد أمراً حسياً، والسلو أمراً معنوياً، ولا يكون المعنوي ملموساً في المكان الحسي,, فيقال: اعتبار الصيد مكانا سوغ صيغة المسلاة، فليس ثمة مجاز
لغوي,, أما كون الظرف والمظروف حسيين ملموسين، والسلو مظروف غير ملموس: فذلك مجاز أدبي، لأن الصيد لما كان سبباً للسلو كان مكاناً له بمجاز أدبي,
الوقفة الثامنة والعشرون: الأصل في معنى الشيىء مكان القصد إليه الذي يعنيه الباحث، ثم أطلق على المعنيَّ - بالياء المشددة- وهو المظروف تجوزاً,, وليس
المعنى بمعنى المعناة كما قال الفارابي، بل المعناة موضع المعاني الكثيرة من الكلام,
الوقفة التاسعة والعشرون: الأصل في اشتقاق المأدبة المعنوي من جهة المادة: أن للأكل، والاجتماع تخلقاً في الأعراف- مع اختلافها- من جهة التسمية، وأن يأكل
مما يليه، وأن لا يكون أسرع القوم إلى الزاد، وأن يجلس حيث انتهى به المجلس، وأن يؤثر بالمجلس ذوي الهيئة من الزعماء، والعلماء والشيوخ,, إلخ,
الوقفة الثلاثون: بما أن المأدبة في حقيقة الصيغة اسم لمكان التجمع حول المائدة بآداب، وبما أنها في مجاز الصيغة اسم للوليمة ذات الآداب المرعية في
التناول: صارت المأدبة أعم الأطعمة، فهي أعم من الوكيرة، والخرس,, إلخ,
الوقفة الحادية والثلاثون: المأدبة يدعى لها الناس بلا ثمن,, هذا حسب العرف العام، وليس حسب المعنى الوضعي للصيغة، ولهذا صح قيد أبي زيد بأن المأدبة طعام
يُتبرع به,
الوقفة الثانية والثلاثون: صحة عبارة ابن منظور: المأدبة بضم الدال فرق بينها وبين المأدبة بفتح الدال الأدب : أن تكون فرق بفتح الفاء، وسكون الراء,,
والمعنى أن جعل المأدبة- بفتح الدال- بمعنى الأدب مصدراً هو الفارق لها عن المأدبة بضم الدال التي هي اسم للمظروف,
الوقفة الثالثة والثلاثون: قول الفيروز آبادي: إن المأدبة لطعام صنع لدعوة أو عرس: قول فيه قصور مادام علم أن المأدبة - بشتى الصيغ- أعم الأطعمة,
الوقفة الرابعة والثلاثون: وهي الأخيرة عن تخريج الأحاديث,
قال الحاكم: حدثنا أبو الوليد حسان بن محمد القرشي الفقيه: حدثنا مسدد بن قطن بن إبراهيم: حدثنا داوود بن رشد: حدثنا صالح بن عمر:أنبأنا إبراهيم الهجري:
عن أبي الأحوص: عن عبدالله رضي الله عنه: عن النبي _ قال: إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم,, إن هذا القرآن حبل الله، والنور
المبين، والشفاء النافع,, عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه لا يزيغ، فيستعتب ولا يعوج، فيقوم ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد,, اتلوه فإن الله
يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات,, أما إني لا أقول: الم حرف ولكن ألف ولام وميم,
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بصالح بن عمر 1 ,
وعلق الذهبي في تلخيصه بقوله: صالح ثقة خرج له مسلم، لكن ابراهيم بن مسلم ضعيف 2 ,
وقال ابن حبان: إبراهيم بن مسلم الهجري أبو إسحاق العبدي من أهل الكوفة، يروي عن ابن أبي أوفى، وأبي الأحوص,, روى عنه أهل الكوفة,, كان ممن يخطىء فيكثر,,
سمعت محمد بن محمود يقول: سمعت الدارمي يقول: قلت ليحيى بن معين: فإبراهيم الهجري كيف حديثه؟,, قال: ليس بشيىء,
قال أبو حاتم: وهو الذي روى عن أبي الأحوص: عن عبدالله أن النبي _ قال: إن هذا القرآن مأدبة الله عز وجل، فتعلموا من مأدبة الله عز وجل ما استطعتم,, وإن
هذا القرآن هو حبل الله عز وجل، والدين البين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لايعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضى عجائبه,,
اتلوه فإن الله عز وجل يأجركم بكل حرف عشر حسنات، قال ابن مسعود: ألم- ألف ولام وميم- ثلاثون حسنة,, حدثنا ابن ذريح يعكبر: حدثنا أبو كريب: حدثنا ابن
فضيل، وابن الأجلح: عن إبراهيم الهجري 3 ,
وقال ابن الجوزي: أنبأنا ابن خيرون,, قال: أنبأنا الجوهري: عن الدارقطني: عن أبي حاتم البستي,, قال: حدثنا ابن ذريح,, قال: حدثنا أبو كريب,, قال: حدثنا
ابن فضيل: عن إبراهيم الهجري: عن أبي الأحوص: عن عبدالله: أن النبي _ قال: إن هذا القرآن مأدبة الله عز وجل، فتعلموا من مأدبة الله عز وجل ما استطعتم,,
وإن القرآن حبل الله، والدين البين، والشفاء النافع,, عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضى عجائبه,, اتلوه فإن
الله يأجركم بكل حرف عشر حسنات,, قال ابن مسعود: ألم- ألف ولام وميم- ثلاثون حسنة,
قال المصنف: هذا حديث لا يصح عن رسول الله _ ، ويشبه أن يكون من كلام ابن مسعود,, قال ابن معين: إبراهيم الهجري ليس حديثه بشيىء 4
حواش:
،1 المستدرك على الصحيحين 741/1- 742 رقم 2040,
،2 المصدر السابق 141/1 حاشية ,
،3 كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين 99/1-100,
،4 العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 101/1-102,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved