على الهامش
حسين المناصرة
القراءة,, والطفل
ثمة حقيقة مؤلمة في واقع القراءة الغائبة يمكن ان نتواجه معها على مستوى مجتمعاتنا عموما في زمكانيتها المعاصرة، وهي حقيقة عزوف القراء عن القراءة، وهذا
العزوف ادى الى غياب الموضوعة الانتاجية الثقافية التي تصدر عن القراءة الثقافية الجادة لاكبر عدد من القراء في الحياة الاجتماعية، سواء توجهت القراءة الى
النصوص الابداعية، ام الى الخطابات المكتوبة في جوانب الحياة المختلفة,
وهذا الغياب لفاعلية القراءة جعل من واقعنا عموما مجتمعا استهلاكيا مسطحا يتعلق بقشور الثقافة ورديئها، بل مفرطا في الاستهلاك الى حد الاختناق عندما يلغي
انسان اليوم زمن القراءة ومكانها الحميمين ويحولهما الى زمن المشاهدة ومكانها المتسطح في سياق من الجماعية الفوضوية,, ومن هذه الناحية يصعب ان تجد قارئا
لكتاب في حديقة عامة، او في صالات المكتبات العامة التي تخلو من الرواد، او اثناء الجلوس بعض الوقت على مقعد السيارة,, الخ,
وهكذا اصبح الفرد لدينا مترهلا في وجوده الثقافي - الاجتماعي القارىء- مما يغيب بالتالي الشخصية الثقافية الاجتماعية الواعية او الشخصية القادرة على ان
تكون لنفسها وعيا ثقافيا شاملا اصيلا,, ليصبح الفرد والواقع بمجملهما في مهب الريح,, تتعاصف بهما رياح الآخر انى شاءت، ولا حول لهما ولا قدرة غير ان
يبتلعهما تيار اللامبالاة او ان يبتلعا المهدئات من الثقافة السريعة الغثة الطازجة على طريقة الهامبورغر لامتصاص الصدمات، او طريق التحسر على الماضي,,
كان يا ما كان في قديم الزمان ,, وعلينا ان نفتخر بما كان, ونأكل ونشرب,, ونستهلك كل ما يصدر الينا من الآخر في دائرة التسطح,, وندعي اننا نعيش على ذمة
التاريخ في الحضارة الحديثة,,,
والدليل الصارخ على كوننا اصبحنا لا نقرأ يكمن في ندرة ارتياد الناس للندوات والامسيات الثقافية، بحيث قد لا يتجاوز عدد حضور امسية شعرية لشاعر مشهور
عشرين شخصا، ومثل هذا العدد يكون في ندوة نقدية او ثقافية، مما يتهيأ لنا بان عدد القراء المعنيين بالمشاركة في اي نشاط ثقافي لا يزيد على مائة شخص هم
حصيلة الوعي الثقافي بمجمله في المجتمع، هذا علما بان كثيرا من المثقفين اصبحوا مثل الناس العاديين، لديهم شهوة للكتابة، ولم يعد لديهم دوافع تدفعهم
للقراءة، وهم يرددون الحجج: ماالذي تريد ان تقرأه من هذا الكم الكبير من الكتابة؟!
ومعنى هذا انه اصبح لدينا تضخم في الكتابة مقابل انحسار شديد في القراءة، والكل اصبح الآن يبحث عن النص الاكثر اختزالاً ليقرأه، ومن هذه الناحية ربما تكون
موضوعات الصحف اليومية مازالت هي الاكثر حظوة للقراءة مع تفاوت ما بين مواضيع واخرى، ففي الوقت الذي نجد هجوما شرسا لقراءة الصفحات الفنية والرياضية
والفكاهية، نجد اهمالا ملحوظا لموضوعات الادب والثقافة,
فما الذي ننتجه من خلال قراءاتنا؟!!, ربما لا شيء يذكر,,
وفي الوقت نفسه قد نستسيغ ان نعيش تخمة استهلاك المضخة المتجسدة في الشيكولاته الباهظة الثمن التي تخرب اسنان الاطفال الذين لم يتعودوا من البداية ان
يشتروا بفلوسهم قصصا ليقرؤوها، ولم يتعودوا على ان يكونوا منتجين لخيالاتهم بدل ان يتلقوها خمس ساعات يوميا على اقل تقدير امام التلفاز مما يسقط عقولهم
الى الهاوية وهم يتابعون الرجل الحديدي السخيف!!
ان هناك غيابا حقيقيا اسريا للبرمجة التربوية الثقافية المنتجة، بل هناك محاربة للقراءة والكتابة الثقافية الجادة داخل الاسرة النواة، في مقابل ترويج
متعمد غير مبال لكل ما يفقد شخصية الطفل هويتها الثقافية المصيرية المبكرة، لتصبح القراءة الجادة سلعة يستهزأ بها، ولتصبح الثقافة الجادة قيمة غير حضارية،
وليصبح الكتاب الجيد عبئا,, في حين تتلخص الحضارة في الفيديو كليب الاسهل للهضم والاخراج من قراءة قصيدة لابد ان تحتاج الى قارىء منتج لانتاج قيمها
الانسانية والجمالية مما يعني مضيعة للوقت من وجهة نظر الاسرة، ولا مانع بالتالي ان تبقى كتابة الطفل رديئة تستمر معه الى ان يتخرج من الجامعة، ويصبح
مدرسا لا يبالي بأخطاء طلابه الذين لا ينتج في داخلهم الرغبة في مغامرة القراءة والتلخيص والحث على الكتابة الابداعية!!
لماذا نحن مجتمع لا يقرأ؟!
ان هذا اخطر سؤال ثقافي لانه سؤال مصيري!! وجوابه ببساطة: نحن لا نقرأ لاننا لم نعد نفكر، ولا نريد ان نفكر!!
الكتابة المبتذلة كتابة مقروءة في كل المجتمعات البشرية,, وهنا ندرك الفرق بين توزيع الكتب الفضائحية والمجلات الرائجة، وكتابات الاثارة وبين توزيع كتاب
ثقافي او نقدي، او تاريخي,, فمن النوع الاول قد توزع ملايين النسخ، في حين لا يزيد ما يوزع من النوع الثاني على المئات بشكل عام,,
لماذا نحن لا نقرأ؟ لماذا نحن لا نفكر؟ لماذا نحن لا ننتج؟ لماذا نحن لا نخطط؟,, لماذا نحن نستهلك كل اللا جدوى وبلا ادنى محاسبة للذات او تأنيبها؟,,
هذه الاسئلة وغيرها كلها مترادفة,, وكلها تحتاج الى اجابة واحدة!! وهي: ان على كل تربية وطنية اسرية ان تبني هويتها الثقافية المصيرية في وعي اطفالها
اولا، لانهم جيل الغد!!,
وان علينا مثلا ان نجعلهم يقرءون تاريخ اليابان الحديث، ليتمثلوا شيئا من هذا التاريخ بدل ان نعلمهم فوائد الاستعمار في بلادنا، وان مصر - على سبيل
المثال- ما كان لها ان تصبح رائدة النهضة العربية الحديثة لو لم يستعمرها الفرنسويون ، وان سوريا هي الاخرى ما كان لها ان تتصل بالحضارة الحديثة لو لم
تتصل بها الارساليات التبشيرية المسيحية منذ اكثر من قرن ونصف,,
كان علينا ان نخطط لخمسمائة قادمة كما تفعل الصين بدل ان نحتفل بتواريخ داحس والغبراء وبأيام العرب في الجاهلية,,
وكان علينا ان نطبع عشرة ملايين نسخة شهريا من كتاب مصيري ثقافي جاد ونوزعه بسعر مخفض بدل ان تكون اسعار الكوكاكولا والشيكولاته والهامبورجر مخفضة وبعد
ان نشربها ونأكلها ندفع التسعيرة مرتفعة نتيجة لانتشار امراضها التي تحتاج الى ميزانية خاصة,,
وكان علينا ان نبث القراءة والكلمة من خلال التلفاز,, بدل ان تصرف المبالغ الهائلة في اغاني الفيديو كليب ,, ومن يرانا نغني ليل نهار، يقول عنا: تراهم
لاهم دنيا ولا عذاب آخرة ,, وكأننا لم نتعثر في زمن المصيبة منذ مائة عام!!,
هنالك من يرى مصيرنا الثقافي المتخلي عن القراءة ينتقل من انهيار الى انهيار بفعل غياب الكلمة الجادة المقروءة,, وغياب المؤسسات الاسرية التربوية الموجهة
لاجيال الامة!!
كيف نبدأ لحل هذه الاشكالية اشكالية القراءة وكيف ننتهي منها؟! انها الجرح الذي لا يندمل مع الزمن!! لكن هناك وسائل كثيرة يمكن ان نعيد من خلالها ثقة
الاجيال الجديدة بواقعها للنهوض به, وبداية يجب تكريس القراءة والكتابة كفعلين انتاجيين عن طريق الحد من المجاري المسطحة الاستهلاكية في فعل الثقافة
الحديثة,, ويجب علينا ايضا ان نسعى دوما الى توزيع الكتب الثقافية والفكرية والادبية بأسعار تشجيعية، وتعويد طلبة المدارس تحديدا على ضرورة قراءة كتاب او
كتابين شهريا وادخالهما في سياق المناهج المفتوحة على الواقع والعلاقات للتعريف بالذات والصور المتوقعة او المفروضة لبناء العلاقة الواعية بينها وبين
الاخر,
فالتربية الوطنية الثقافية الجادة هي التي تنتج جيلا منتجا واعيا، جيلا قادرا على ان يقف في وجه الاعداء الذين يحاصرون ثقافتنا من كل صوب، وبالتالي نستطيع
ان نسقط كرقابة ثقافية اية فضائيات اباحية، او مجلات هابطة تتقصد استعمارنا ثقافيا، خاصة ان الامية الثقافية اخطر بكثير من امية القراءة والكتابة الآلية،
لان الوعي الاقدر دوما على ان يرينا العدو من الصديق، وان يعرفنا بالتالي كيف نبني قدراتنا لنتمكن من العيش بسلام وامن وتقدم حضاري في هذا العالم المليء
بالذئاب


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved