العلوم الأدبية
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الاستاذ جبور عبدالنور عن الادب: )علم يقصد به الاجادة في فني المنظوم على اساليب العرب ومناحيهم، وحفظ اشعارهم واخبارهم,, تحديد عربي قديم( )1( ,
قال ابو عبدالرحمن: ان اراد بقدم التحديد عصور التدوين الاولى في العهود الاسلامية فذلك صحيح، وان اراد ان ذلك تحديد العرب في جاهليتهم: فلااعلم ان ذلك معروف لديهم ولااعلم له شاهدا من كلامهم ولم اجده في معاجم اللغة العربية,, وعلى فرض انه معروف في الجاهلية فليس هو المعنى الوضعي بل هو معنى مجازي من احد وجهين:
اولهما: ما فيه من حكم وامثال تدعو الى الفضائل,
وثانيهما: تهذيبه للسان والقريحة وصقله للحاسة الجمالية، فيكون المأخذ من معنى مجازي آخر، وهو الترويض,
وهذا العرف الادبي شامل للنصوص - ثم من بعد ذلك الكتب - التي تهدي الى الاخلاق وتثقف الذاكرة، وتثري مدارك العقل، وتسمو بالحس الجمالي وتشحذه,, قال ابن خلدون )732 - 808(: هذا العلم لا موضوع له ينظر في اثبات عواضه او نفيها وانما المقصود منه عنداهل اللسان ثمرته وهي الاجادة في فني المنظوم والمنثور على اساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ماعساه تحصل به الكلمة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الاجادة ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة اثناء ذلك، متفرقة، يستقرىء منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من ايام العرب,, يفهم به ما يقع في اشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الانساب الشهيرة والاخبار العامة,
والمقصود بذلك كله الا يخفى على النظار فيه شيء من كلام العرب واساليبهم ومناحي بلاغتهم اذا تصفحه، لانه لا تحصل الملكة من حفظه الا بعد فهمه، فيحتاج الى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه,
ثم انهم اذا ارادوا حد هذا الفن قالوا: الادب هو حفظ اشعار العرب، واخبارها، والاخذ من كل علم بطرف,, يريدون من علوم اللسان او العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث، اذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب الا ما ذهب اليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في اشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية، فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ الى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها,
وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم ان اصول هذاالفن واركانه اربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لابي علي القالي البغدادي,, وما سوى هذه الاربعة فتبع لها وفروع عنها,, وكتب المحدَثين في ذلك كثيرة,
وكان الغناء في الصدر الاول من اجزاء هذا الفن، لماهو تابع للشعر اذ الغناء انما هوتلحينه,
وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون انفسهم به، حرصا على تحصيل اساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة,
وقد الف القاضي ابو الفرج الاصبهاني )وهو ما هو( كتابه في الاغاني,, جمع فيه اخبار العرب واشعارهم وانسابهم وايامهم ودولهم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك اتم استيعاب واوفاه,
ولعمري انه ديوان العرب، وجامع اشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الاحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو اليهاالاديب ويقف عندها,, وانى له بها!؟( )2( ,
ثم ذكر الاستاذ جبور عبدالنور تطور الدلالة العرفية لمادة الادب، فقال: )لحقت بهذا اللفظ خلال الاعصر العربية مفاهيم عدة متطورة مع المجتمع، متسعة تبعا للروافد المنصبة في الحضارة الجديدة، فهو في مدلوله الابعد )انطلاقا من شيوعه علىالالسنة(يتضمن معنى العادات والتقاليد والاعراف المتوارثة والمتحدرة من الاقدمين، والمعتبرة في مضمونها الخلقي نهجا خاصا في التعامل مع الناس,, حتى ذهب بعض المستشرقين امثال فولرز ونلينو الى ان )آداب( ما هي اصلا الا جمع للفظة )دأب( بمعنى العادة والديدن والشأن,, مبعدين بها عن جذر )أدب(,, والبارز من المتون القديمة ان هذه الكلمة في نموها الزمني وثرائهاالدلالي تضمنت معاني لصيقة بالشمائل النفسية، والتربية الرفيعة، والأنس بالاخرين,, معبرة عن التهذيب البدوي الاصيل المتصدي للمفاهيم الجديدة المتسربة الى البيئة العربية في صدر الاسلام والعصر الاموي,, حتى كادت تكون آنذاك مرادفة للفظة ظرف او كياسة وما يندرج في بابهما,, وقد ظل هذا المعنى الخلقي ملتصقا بها خلال مرحلة زمنية طويلة فقيل: أدب النديم، وادب الحديث، وادب الدرس، وادب العالم والمتعلم,, الخ,, ومع ذلك فان دائرة شمولها اتسعت ابتداء من القرن الاول للهجرة، فتضمنت فضلا عن )3( فحواها التقليدي معنى ثقافيا خاصا ما عتم مع مرور الزمن ان اشتد بروزا، واصبح هو الاصل وغدا سواه ظلاً من ظلاله ودل على مجموع المعارف التي تجعل من المرء انسانا ظريفا مشاركا في شؤون عصره، مطلعا على فنون الشعر، والخطابة، والسير، وتاريخ القبائل، وايام العرب، متمكنا من اسرار اللغة، والقواعد، والبلاغة، ومحصلا من العلوم الدخيلة زبدة ما توصل اليه العلماء في مختلف المدارس الفكرية,, وقد تمثل هذا المفهوم للادب افضل تمثل في آثار الجاحظ وابي حيان التوحيدي )4( ,
قال ابو عبدالرحمن: ما ذكره الاستاذ جبور في سياق كلامه عن شيوع الادب على الالسنة ومدلوله الابعد هو المعنى الوضعي الحقيقي للادب,
واما ان الادب من الدأب - بتقديم الدال على الهمزة - فذلك ظنون مرسلة، ودعاوى ميتافيزيقية,, ولكن نظرية الجذر الثنائي قد تكشف عن امور مشتركة في تقليب الادب الى جذورها هكذا: أدب، وأبد، ودأب، ودبأ، وبأد, وبدأ,, وعسى ان تتاح الفرصة لهذه المعالجة,
ومن الصحيح ما قاله الاستاذ جبور عن تضمن مادة الادب معاني ثقافية، ولكن ليس من الصحيح ان معناها اللغوي الوضعي، ومعانيها العرفية اللغوية اصبحت ظلا، بل ظل اطلاق الادب والآداب والتأدب لا ينصرف لغير التربية والفضائل,, ولا ينصرف الى العلوم الادبية الا بقرينة من اضافة، أو دلالة سياق، او معهود ذهني,
قال ابو عبدالرحمن: والىعصر النهضة الحديثة ظل الادب والآداب - بالمفهوم الاصطلاحي - يعني كتب الشذرات العلمية، والاخذ من كل فن بطرف مع تغليب عنصر النص الفني من الشعر والنثر وما يتعلق به من النقد والتنظير,, بل ظل يشمل تنويع العلوم، فمن الاول كتب الجاحظ وابي حيان وكتاب المعافى للنهرواني وبهجة المجالس لابن عبدالبر,, الىالمستظرف والكشكول، والمخلاة,, ومن الثاني العقد الفريد، ونهاية الادب للنويري، وكتاب الوطواط، والف باء للبلوي,
واذا تصفحت معجم الادباء لياقوت رأيت فيه جلة العلماء كابن جرير وابن حزم ولكنه طعّمه بشيء من قولهم الفني,
وبعصر النهضة الحديثة صار التأريخ للأدب تاريخاً للعلوم في مثل كتاب بروكلمان، وجرجي زيدان، والرافعي، والزيات,, الخ,, حتى استقرت نظرية الادب، فأصبحت القيمة الجمالية من ذات النص الفني هي التي تحدد تحديدا دقيقا مفهوم الادب الاصطلاحي وتقسمه الى انواع محصورة - اطلقوا عليها خطأ الاجناس الادبية، وانما هي انواع من جنس مثل الشعر، والرواية، والقصة، والمسرحية,, واصبحت تلك الكتب العامة تصنف في دائرة المتفرفات، والمعارف العامة، والموسوعات,
قال ابو عبدالرحمن: وقد حققت في احد كتبي المطبوعة تصنيف الادب، واخرجت اوشابا عن دائرةالنظرية الادبية,
واما آداب العلوم الاخرى فيراد بها الادب بمعناه الوضعي وهو الفضائل مثل علم آداب البحث والمناظرة، وعلم آداب التوبة، وعلم آداب الحسبة، وعلم آداب الدرس، وعلم آداب كتابة المصحف، وعلم آداب السفر، وعلم آداب السماع والوجد عند الصوفية، وعلم آداب الصحبة والمعاشرة، وعلم آداب العزلة، وعلم آداب الكسب والمعاش، وعلم آداب النبوة، وعلم آداب النكاح، وعلم آداب الملوك، وعلم آداب الوزراء، وعلم آداب الادعية والاوراد )5( ,, بل لكل علم مقدماته العشر، كموضوعه، وواضعه، وثمرته، وآدابه,
ويلحق بهذا آداب استجدت اصطلاحا لدى المعاصرين كأدب الحيوان في اعمال مثل حكايات ايسوبوس، وجاتاكا، وكليلة ودمنة )6( ,
وكذلك استجد اصطلاحا أدب الرحلات )7( ,, وانما قلت اصطلاحا، لانها موجودة مادة في تراثنا، ولكنها ضمن مجاميع المنوعات الادبية التي تحرص على المستطرف والمستظرف,
واستجد اصطلاحا ايضا ادب السيرة، وادب علم الكلام، وادب العلماء )8( ، وأدب الرواية مثل الكامل للمبرد )9( ، وادب المجانين الذي مثله في تراثنا حكايا جحا والبهلول )10( ,
وعرف في مأثورنا القديم ادب الطفيليين، وادب الصعاليك، ومن يشملهم مصطلح الفلاكة والمفلوكين,
وفي وقت اعتبار الادب علوما لا مجرد كتب طرف وظرائف كانوا يحددون العلوم المصنفة في دائرةالادب,, قال صديق حسن خان )- 1307ه(: هو علم يحترز به عن الخطأ في كلام العرب لفظاً وخطاً ,, قال ابو الخير: اعلم ان فائدة التخاطب والمحاورات في افادة العلوم واستفادتها)لما لم تتبين للطالبين الا بالالفاظ واحوالها(: كان ضبط احوالها مما اعتنى به العلماء فاستخرجوا من احوالها علوما انقسمت انواعها الى اثني عشر قسما سموها بالعلوم الادبية، لتوقف ادب الدرس عليها بالذات، وادب النفس بالواسطة,, وبالعلوم العربية ايضا، لبحثهم عن الالفاظ العربية فقط، لوقوع شريعتنا التي هي احسن الشرائع وافضلها واعلاها واولاها على افضل اللغات واكملها ذوقا ووجدانا,, انتهى,
واختلفوا في اقسامه فذكر ابن الانباري في بعض تصانيفه انها ثمانية، وقسمه الزمخشري في القسطاس الىاثنى عشر قسما كما اورده العلامة الجرجاني في شرح المفتاح وذكر القاضي زكريا في حاشية البيضاوي انها اربعة عشر، وعد منها علم القرآن,, قال: وقد جمعت حدودها في مصنف سميته )اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم(,, لكن يرد عليه ان موضوع العلوم الادبية كلام العرب وموضوع القراءات كلام الله سبحانه وتعالى,
ثم ان السيد والسعد تنازعا في الاشتقاق هل هو مستقل كما يقوله السيد او من تتمة علم الصرف كما يقوله السعد,
وجعل السيد البديع من تتمة البيان والحق ما قاله السيد في الاشتقاق، لتغاير الموضوع بالحيثية المعتبرة )11( ,
قال ابو عبدالرحمن: سبق لي الاشارة الى ان الاحتراز عن الخطأ أعم من علم الادب,, هاهنا حَدَّد الاحتراز بكلمة في كلام العرب لفظا وخطاً ، فهذا اذن من المصطلحات القديمة التي خصصت الادب باللغة العربية متنا وقاعدة,, ولا ريب ان البلاغة ذات دخل في الاحتراز من الخطأ ولهذا سميت بالنحو الثاني,, وكلام الله يفسر بلغة العرب وعلوم القرآن تراعي قواعد العربية فعلوم القرآن داخلة في الاصطلاح,
وهناك كتب مزجت بين الادب واللغة كمجالس ثعلب، وكامل المبرد، فهي اصدق نموذج للكتاب الادبي بهذا الاصطلاح القديم,
قال ابو عبدالرحمن: وسبق ان اوردت نصوصا من كليات الكفوي، ولم استوف مناقشتها، فمما ذكره من معاني الادب )حسن الاحوال في القيام والقعود(,
قال ابو عبدالرحمن: إن كان ذلك بتوجيه شرعي فهو من الفضائل، فيكون من المعنى الحقيقي الوضعي,, وان كان لملحظ جمالي فهو علىالتشبيه بالفضائل وذلك مجاز,
ولما عرف ابو زيد الادب بأنه ملكة تعصم من قامت به عما يشينه: رجَّح الكفوي التعبير بالملكة، لانها الصفة الراسخة للنفس,
قال ابو عبدالرحمن: هناك ادب، وباعث أدب، فالادب الخصال الحميدة ذاتها,, وباعث الادب الملكة الراسخة، او التربية التعليمية، او وازع العقوبة، او اغراء الترغيب,
وتفريق الكفوي بان التأديب يتعلق بالمروءات وان التعليم يتعلق بالشرعيات: ليس بفارق على الحقيقة، لان الشرع يأتي بالمروءات,,والفارق الصحيح بينهما: ان التعليم المؤدب من العلوم ما له اثر في تربية النفس على الخصال الحميدة، فيكون العلم مقصودا لغايته لا لذاته,
وفرق بينهما نقلا عن الكرماني بأن المروءات دنيوية عرفية، وان الشرعيات دينية أخروية,
قال ابو عبدالرحمن: والشرع ايضاً يرد بالعرفي والديني!!,
حواشي,
)1( المعجم الادبي ص 315,
)2( تاريخ ابن خلدون 1/641 - 642,
)3( حققت في مقدمة كتابي مبادىء في نظرية الشعر والجمال ان هذا الاستعمال لا يصح لغة,
)4( المعجم الادبي ص 315 - 316,
)5( انظر على سبيل المثال مفتاح السعادة في مواضع متفرقة، مفيد العلوم، ومبيد الهموم ص 120 - 133، والتعريفات ص 24 - 25، وكشف الظنون 1/38 - 49، وأبجد العلوم ص 34 - 47,
)6( انظر عنه المعجم في الآداب للتونجي ص 54,
)7( انظر عنه المصدر السابق ص 55,
)8( انظر عنهن المصدر السابق ص 56 و63,
)9( انظر عنه المصدر السابق ص 17,
)10( انظر عنه معجم المصطلحات العربية في اللغة والآداب ص 20 - 21,
)11( أبجد العلوم 1/44 - 45,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved