نهاية حقبة،،
حسين المناصرة
أمست مقولة الحداثة من المقولات التي تستحضر مع منطوقها السمعة السيئة، خاصة بعد ارتباطها بتغريب القارىء، وكسر أية علاقة ودية تفاهمية بينه وبين نصوصها
التي أفرزت نقاداً لهم خاصية التنجيم من جهة، وحكمت على نفسها من وجهة نظر غير حيادية بكل تأكيد بالموت من جهة ثانية،
وكون نصوص الحداثة غير تواصلية أو مقروءة، فإن فكرة تفسير الحداثة بالتحديث اصبحت تعد مفهوماً سطحياً وان المتلقي لا يفهم الحداثة على أنها: أن يعبر الفن
بعامة والفن الأدبي بخاصة والفن الشعري بصفة أخص عما نعيشه في العصر الحديث،،، (أي) أن تعكس الأعمال الفنية حياتنا الحديثة شكلاً ومضموناً موضوعات ولغة
وصوراً واهدافاً وخطوطاً وألواناً وكل العناصر كما يعرفها أحمد هيكل، فهذا الوعي في وصف الحداثة لم يعد مستساغاً أو مقبولاً لأنه خدعة، لأن رموز الحداثة
من المبدعين الكبار المنحازين إلى أسطرة اللغة وتعاليها لا يقبلون مثل هذا التعريف الذي لا ينجز الهدم والتجاوز والإيغال،، وأنهم يستمتعون وهم يقتلون
القارىء عندما يرفضون أن يكون الواقع في كتابتهم قضية مفهومة أو بنية سهلة ممتنعة ومن هذه الناحية كانت فكرة الحداثة لدى بعض المفكرين والأدباء الملتزمين
بقضاياهم الوطنية فكرة ضد التآسيس الثقافية والاجتماعية والمصيرية للأمه العربية المعاصرة على حد تعابير كثير من المتشائمين من الحداثة،
بل ان الحداثة نفسها، أصبحت عبئاً على كثير من رموزها الذين اصبحوا يرون أنفسهم فوقها، أو متجاوزين لها، وأنها تاريخ مضى، جاء بعده تاريخ ما بعد الحداثة ،
ومن هذه الناحية بدأت السياقات الجديدة في الكتابة الأدبية المابعد حداثية ذات سياقين، أحدهما ان تحاول اللغة الأدبية والنقدية ان تفرض نفسها كتعمية أكثر
مما كانت عليه الحداثة، وما أن تجد نفسك مجبراً على قراءة كتاب ما بعد حداثي تنظيري من هذا النوع حتى تشعر أن السقوط في الهاوية أسهل عليك من متابعة
القراءة وأن مسألة التفكيك التي ولدت في أحضان ما بعد الحداثة ما هي إلا البنيوية نفسها التي ولدت في أحضان الحداثة الموغلة في الانتهاك والتجاوز ، وأن
هالات التعاقيد والإشكاليات التي تتولد في سياق الحداثة أو ما بعدها هي حالة من الموت المتقوقع الذي يمارسه كبار المثقفين المتكلسين في قواقعهم الصنمية،
ليصبحوا وكأنهم من وجهة نظر مثقفين متنورين ليسوا منقطعين عن التواصل مع القراء العاديين فحسب، وإنما أيضاً منقطعون عن السياق الثقافي المنتمين إليه،
وأخراهما أن اللغة اصبحت أكثر مباشرة وعادية ومألوفة، ولكن تفلسف بطريق أكبر من حجمها، لتصبح وكأنها لغة ثقافية مفتوحة قد تصل أحياناً إلى أن تكون
سفسطائية على طريقة السفسطائيين القدماء نقيض المناطقة، وقد تكون سهلة في المظهر عميقة في الباطن،
والحقيقة التي بقيت ماثلة للأذهان لدى كثير من نقاد الحداثة المتوازنين هي أن الحداثة لم تكن بالنسبة لهم في يوم من الأيام مأزقاً، لأنهم كانوا مدركين منذ
البداية لأهمية ضرورة الارتباط الجذري بين التراث والحداثة، وان الحداثة بالتالي لم تخرج عن كونها اسلوباً لغوياً معاصراً يعيشه الانسان ويتفاعل من خلاله
مع ماضيه ومستقبله وعلاقته بالآخر، ومن هنا أصبح تعريف الحداثة لدى كثير من هؤلاء المثقفين على انها صفة لا علاقة لها بأية تعقيد غير مفهوم أو استعلائي
يمارسه الصفوة، وإنما هي انطلاقة تتعايش مع جدلية العلاقة المصيرية ما بين الماضي والحاضر لانتاج المستقبل،
وبذلك يصف إدريس الناقوري الحداثة على مستوى الشعر بقوله: أنا شخصياً أفهم الحداثة بمعناها البسيط، على أنها قبل كل شيء هي الأصالة،، والأصيل بمعناه
العميق الصافي النقي، بمعناه العبقري، المتفرد المبتكر،، شاعر يلتقي مع تقاليد الشعر الراسخة العميقة الأصيلة، ويفتح أبوابه للمستقبل ، وهي من وجهة نظر
خلدون الشمعة حصيلة قراءة عميقة ومتمعنة في التراث الفني والأدبي المعاصر، لا أن تكون بمثابة اقتباسات عشوائية من الحداثة الغربية الأمر الذي أدى الى
تغريب القارىء العربي عن ثقافة الحداثة، وأنه لم يكن في يوم من الأيام فاهماً أو متفهما لها، لذلك بقيت فعلاً ميتاً،
ويعرف صبري حافظ الحداثة على انها حوار الذات مع الآخر، وحوار الذات مع ماضيها من أجل استشراف مستقبلها نفسه ومن خلال هذه الحوارية نفهم أن أكثر الشعراء
اتصالاً بالمتلقين هم الشعراء الذين تمسكوا باللغة التواصلية، واللغة التواصلية لا تعني إطلاقاً أن تكون لغة مسطحة تقريرية، بل إنها من الممكن ان تكون
مليئة بالمفارقات والرموز وقابلة لقراءات متعددة،
وقد فهمت الحداثة على أنها الانفتاح كما يظهر من تعريف عبدالقادر القط الذي يعرفها في صورة أن يعيش الكاتب عصره، وأن يدرك فلسفات الأدب الذي يكتب فيه،
وألّا يتشبث بالقديم لمجرد أنه قديم، وأن يكون هناك التزام طبيعي بين ما يسمى بالتراث والمعاصرة ،
ويرى الغذامي في تعريفه للحداثة إنها معادلة واضحة الرؤية بين ما هو جوهري لابد من التمسك به لكي نتمسك بهويتنا وقيمتنا الحضارية ووجودنا التاريخي، وبين
المتغير الذي لا يؤثر على هويتنا ولا على وجودنا، ولكنه يعيننا على التحرك ويساعدنا عليه ،
ويقرر عبدالملك مرتاض أن الحداثة حين لا تقوم على التراث، ولا تنطلق منه، هي كالشيء الذي تقطعه من دون أصله ص 221،
ويمكن ان نستعرض أقوالاً كثيرة لمجموعة من النقاد المتوازنين الذين يجعلون من العلاقة المعاصرة بالتراث علاقة فوق اية علاقة اخرى يمكن أن تنتج في سياق
مفهوم الحداثة، وهذا ما يشعر بأن الحداثة الأصيلة تسعى الى ان تنقذ هذه الأمة من الخراب الذي حل عليها!! في حين هناك من يعتقد أن الحداثيين المزيفين هم
اصل الخراب في الثقافة العربية والفكر العربي، وأنهم كانوا منظرين لم يستطيعوا ان يصلوا الى القراء، وأنهم لم ينتجوا حميمية التواصل مع المتلقين، فبقيت
افكارهم صياغات فلسفية شعارية بعيدة عن اية ممارسة تذكر في الواقعين العادي، والثقافي، اضافة الى غياب الجدوى الانتاجية في أعمالهم،ولعل العيب الكبير يكمن
في طبقة المتلقين أنفسهم الذين لم يفهموا الحداثة على انها انتاج، بعضه جيد وثمين، وبعضه الآخر يستحق أن نفهمه على أنه من اسباب هزيمة حزيران 1967 على
سبيل المثال، وهنا قد يبرر البعض موقفه بالاستشهاد بمجلتي شعر وحوار (المدعومتين من جهات استعمارية مشبوهة) واللتين كانتا وراء انزياح كثير من المثقفين عن
دورهم الريادي في خدمة قضاياهم الوطنية والثقافية الى وراء السراب الثقافي البوهيمي والسريالي والوجودي،
ربما نستطيع الادعاء بأن كل مبدع معاصر هو حداثي بطريقته الخاصة التي ينجز من خلالها مشروعه الابداعي المتفاعل مع حاضره وماضيه ومستقبله؟!،
وربما اصبحت هذه هي السمة التي انتهت اليها الحداثة بعد أن بدأت تتحول فعلياً الى ثقافة، وأن ثقافة المبدع أو الناقد أو القارىء هي موضوعة توصيفه الرئيسة
في مجال الكتابة أو تلقيها، وأن من أهم سمات ا لثقافة الجديدة: الانفتاح والتجريب والتأويل والتداخل والاحتفال بالعادي والمألوف وتعمد كسر النظريات
المعقدة، والميل إلى الاختصار الشديد فيما تود قوله،، الخ،
وربما نتفق كثيراً مع السر غيني وهو يقول: إن الذين يتحدثون عن الحداثة اناسي يشعرون بأن الركب تجاوزهم، وإلا فالحداثة لا يتحدث عنها، الحداثة هي أن تعيش
اللحظة المعاصرة متأهباً للحظة التي ستليها في المستقبل، بمعنى أن تستحق عيشك الحالي الذي يؤهلك إلى عيش مستقبلي، وهذ الشيء لا يمكن ان يخضع للتنظير،
لماذا؟ لأن هناك حداثات بقدر ما هناك من أشخاص ،
وإذا بدأنا نشعر بأن مقولات الحداثة، وما بعد الحداثة من المقولات التي لم تعد تشغل وعينا الثقافي مع بداية القرن القادم، وأنها فعلاً مقولات أكلت ردحاً
من الزمن تعاركت فيه النقائض، فإن علينا ألا ندخل مرحلة جديدة بقيم استهلاكية مماثلة لقيم الحداثة، حتى لا تصبح وظيفتنا في الحقبة المطلة/ حقبة العولمة
مختزلة في الصراع نفسه، مع أو ضد،، لأن الثقافة بكل تأكيد هي إنتاج للذات التي تعني بناء الشخصية المؤثرة الخاصة التي لن تتأثر كثيراً بأية ثقافة معادية
قوية تمارس دورها الاستعماري في هذا العالم المتناقض في جوهره والمتسامح في مظهره!!،


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved