بين الصيغة والمادة
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
الوقفة الثانية عند معاني الأدب مادة وصيغة: أن الفعل الماضي الثلاثي المفتوح الفاء والعين، وهو فَعَلَ يأتي مضارعه بكسر العين يفعِل ،، وجاء على هذه
الصيغة أَدَبَهُ يأدِبهُ،، بمعنى دعاه الى طعامه، ومصدر هذا الفعل أَدبٌ بفتح الهمزة وسكون الدال؛ لأن الأصل في هذه الصيغة ان يكون المصدر فعلاً- مفتوح
الفاء، ساكن العين- إذا كان الفعل متعديا،، قال الفراء: ما ورد عليك من باب فَعَلَ يفعُلُ بضم العين في المضارع ، وفعل يفعِل بكسر العين في المضارع :
فاجعل مصدره على الفعل بسكون العين ، أو على الفعول،، الفعل لأهل الحجاز، والفعُول لأهل نجد (1) ،
قال أبوعبدالرحمن: الفعول أصيلة في اللازم، والفعل أصيلة في المتعدي،، كما ان الفعول أدل على الاسمية،، وحق المصدر - في الأصل- ان يكون فعلا، ولكن الفعول
في اللازم اسم لكامل الحدث بعد حصوله، وقام قيام المصدر الذي هو اسم لفعل الحدث؛ فتقول: قعد قعوداً،، ولا تقول: قعد قعداً،، ذلك ان القعود هيئة لا تتجزأ،
فقام المصدر مقام اسم الحدث الحاصل، ومقام الحدث حال إيقاعه،، وهكذا ناب الفعل عن الاسم في المتعدي؛ فتقول: ضربه ضرباً؛ فيشمل اسم الحدث حال فعله، وذلك هو
المصدر، ويشمل اسم الحدث بعد وقوعه وذلك هو الاسم،
وذكر الفارابي أن الفعل والفعول يتبادلان بين اللازم والمتعدي (2) ،
قال أبوعبدالرحمن: حال التبادل يأتي المصدران لنكات تبحث عن آحاد الاستعمال،
وذكر الفارابي ان المصدرين يجتمعان أحياناً، ومثّل بمثالين من اللازم هما: سكت سكتاً وسكوتاً، وصمت صمتاً وصموتاً (3) ،
قال أبوعبدالرحمن: هاهنا المصدر السكت والصمت،، أما السكوت والصموت فللاسمية،، ولكن لما ناب السكوت والصموت عن المصدر في الفعل اعتبروا السكوت والصموت
مصدرين؛ ولهذا جاءت لفتة من الفارابي غزيرة الدلالة في التأصيل؛ فقال: وربما جاء الاسم في موضع المصدر، وناب عنه (4) ،
قال أبوعبدالرحمن، والنكتة في أنك تقول: سكت سكتاً وسكوتاً،، ولا تقول: قعد قعداً وقعوداً: أن السكوت أحداث متعددة كل حدث منها سكت ، والسكوت مجموعة سكت -
وهو حبس اللسان عن النطق-؛ فكان للدلالة على أكثر من سكت،
أما القعود فهيئة معينة ليست من أحداثٍ كل حدث منها يسمى قعداً، بل للأحداث المحققة للجلوس أسماء من الانحناء والنزول، ووضع المقعدة،، إلخ؛ فإذا اكتملت
هذه الأحداث كان اسمها جميعها قعوداً؛ فكانت القعود للمصدر والاسم معاً،
وموجز القول: أن مصدر أدب المتعدي على الأدب سماعا وقياسا،، ومعنى أدبه دعاه الى طعامه،
الوقفة الثالثة: ليست أدب مرادفة لدعا مرادفةَ المطابقة، وليس الأدب في الوضع بمعنى الدعاء بإطلاق؛ فهذا الخلط تسمو عليه عبقرية اللغة،، وإنما هو دعاء
مقيد بما يقتضي تخلقاً،، هذا في أصل الوضع، ثم تجوزوا بذلك لمطلق الدعاء؛ ولهذا ارتبط الأدب - بمعنى الدعاء- بالطعام؛ لأنه يقتضي كثرة من التخلق؛ فهو أكثر
الموضوعات آداباً،، قال زكريا بن محمد القزويني(-862): قال الإمام المطلبي رضي الله عنه: من أراد ان يضع لقمة في فيه فهو محتاج الى اثنتي عشرة مسألة، أربع
واجبة، وأربع مسنونة، وأربع هي آداب،، أما الواجبات:
فالأولى: أن يأكل من الحلال،
والثانية: أن يأكل طيباً فإن النجس يحرم تناوله،
والثالثة: ان يعتقد ان الرازق هو الله تعالى،
والرابعة: يؤدي شكر ذلك،
وأما السنن: فأن يقول في أول الطعام بسم الله، وفي آخره الحمد الله، ويجلس على رجله اليسرى، وأن يغسل يديه،
وأما الآداب: فأن يأكل من بين يديه، ويصغر اللقمة، وأن يأكل من رأس القصعة،ولا ينظر الى لقمة الغير،
والمستحب أن يأكل الخبز على السفرة تذكرة أن المسافرين على أوفاز، وينوي عند الطعام أنه يأكل؛ ليقوى به على طاعة الله، لا يأكله شهوة ونهمة،، ومن لم يكن
جائعا لا يمد يده إلى الطعام؛ فقد قال الحكماء: من مد يده إلى الطعام وهو جائع ويمسكها وهو جائع فلا يحتاج الى الطبيب أبدا،، ويستحب ان يكرم الخبز فإن
قوام الآدمي الخبز،، ومن آدابه أن يأكل مع غيره، ولا يأكل وحده؛ فإن الخلوة والوحدة في الطعام مذمومان، ويبتدىء بالملح ويختم به، ويصغر اللقمة وينعمها في
المضغ، ولا يضع القصعة على الخبز، ولا يمسح يده بالخبز، ولاينفخ في الطعام الحار، وينظف أصبعه بفمه أولا ثم بالمنديل، ويلتقط الفتات وكسيرات الخبز؛ ففي
الخبز: من فعل ذلك يطيب عيشه، وتسلم أولاده من الآفات، ويكون مهورَ الحور العين،، وإذا فرغ من الطعام يقول: الحمدلله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا
سيدنا ومولانا، ويقرأ قل هو الله أحد ولإيلاف قريش ،
وإذا أكل مع غيره فآدابه سبعة:
الأول: ما لم يمد الشيخ أو العالم يده إن كانا حاضرين لا يمد يده،
والثاني: ان يتكلم على الخوان، ولا يسكت فإن السكوت عادة المجوس،
والثالث: ان يراعي أكيله حتى لا يظلم عليه؛ فإن الاجحاف عليه في الأكل حرام،
والرابع: أن لا يحلف على الطعام، فيقول: بالله كل من هذا الطعام،
الخامس: أن لا يلاحظ نفسه، ولا ينظر الى لقمة الغير،
السادس: لا يفعل فعلاً ينفر عنه الطباع، مثل ان ينثر يده في القصعة، ويقرب فمه إليه، وممامسته أسنانه ليلقيه في القصعة،
السابع: ان يريه الطشت في جانب اليمين،، قال الحسن: من كمال الرجل أربعة أشياء:
الأول: أن يكون قادراً على أخلاقه،
الثاني: أن يتكلم بالوزن،
الثالث: ان يعامل بشيء يملك معاملته،
الرابع: ان يأكل قدر ما لا يضره،
ومن الأدب أن يأكل بكرة شيئا يطيب به نكهته؛ فإنه يرفع الصفراء، ويصفي اللون، ويحفظ مروءته؛ فلا يمتد طمعه الى طعام الغير،، قال أمير المؤمنين علي كرم
الله وجهه: من أراد البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقلل غشيان النساء قيل: تخفيف الرداء أراد به قلة الدين ،، خير الأطعمة اللحم، وفي
الخبر: من لم يأكل اللحم أربعين يوما يسوء خلقه، ومن استدام أكله يسود قلبه ،، وفي الخبر: كل بيت فيه خل لا يفتقر أبداً ،
وقال صديق بن حسن القنوجي (-1307ه): آداب الأكل، وهي: حل الطعام كسبا بعد حله في نفسه شرعا، وغسل اليد قبل الطعام وبعده، ووضع الطعام على السفرة؛ لأنه
أقرب الى التواضع، والجثو على الركبة عند الأكل، وأن ينوي عند الأكل أن يقوى على الطاعة، وأن يقنع بالحاضر، وأن يجتهد في تكثير الأيدي على الطعام، وأن
يبدأ ببسم الله، ويختم بحمد الله، ويلعق أصابعه، ويلتقط فتات الطعام، ولا يبتدي به قبل من يستحق التقديم لكبر سنه أو فضله، ولا يسكت بل يتكلم بالمعروف
وحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها،، وهذا العلم مدون في كتب علم الحديث، وذكره في مدينة العلوم،، وهكذا هو من العلوم المتعلقة بالعادات (5) ،
قال أبوعبدالرحمن: والدعوة الى الوليمة لا تقتضي آداب أكل وحسب، بل هي اجتماع يقتضي آداب مجلس ومنادمة ومسامرة،، قال الأستاذان مجدي وهبة، وكامل المهندس:
آداب المائدة هي آداب تواضع عليها العباسيون من الخلفاء والوزراء وعِلية القوم في العصر العباسي الأول، وهم على مائدة الطعام،، ومنها ان يضم الآكل شفته
اثناء المضغ، وألا يستأثر لنفسه بلون من محاسن الطعام، والا يمسح فمه كمه، وألا يتناول إلا ما بين يديه، وألا ينظر الى ما بين يدي غيره، والا يطلب مالا
يحتمل وجوده،
وآداب المسامرة في الآداب التي لابد للنديم من إحسانها في مجالس الخلفاء والوزراء وعلية القوم؛ حتى يخف على قلب منادمه،، وكثير من الندماء اعتلوا منصب
الوزارة، أو ظفروا بالصلات السنية بسبب إحسانهم التبسط الى الخلفاء أو غيرهم اثناء الحديث في ساعات الرضا والغضب؛ لذلك تنافس العلماء والأدباء واللغويون
والفقهاء في إتقان هذه الآداب (6) ،
قال أبوعبدالرحمن: ولقد ذكر المفهرسون الكتب التي صنفت في آداب الأكل،، وكل ما سبق آداب شرعية، وآداب منسوبة الى الشرع من إحياء العلوم للغزالي وشبهه،
وعادات موروثة عن العرب في جاهليتهم، وآداب استجدت في الحضارة العربية،، ومن يتتبع الشعر العربي الجاهلي يجد كثيرا من آداب الأكل كافتخار الشنفرى بأنه ليس
الى الزاد أعجل، وافتخار عروة الصعاليك بإيثاره الزاد غيره، وأنه ليس مُصافي المشاش آلفاً كل مجزر، وكتعييرهم عمرو بن معدي كرب بأنه أكول،،إلخ،
الوقفة الرابعة: في عبارة الخطابي رحمه الله: أَدَبَ على القوم يأدِب أَدباً، فهو آدب، وهم أدبة مثل كاتب وكتبة ،
قال أبوعبدالرحمن: إنما هي أدب القومَ بمعنى دعاهم؛ فالفعل متعد مباشرة،، وقول الخطابي أدب على القوم من باب التضمين؛ كأنه يريد عمَّم عليهم القول
بالدعوة، أو ما أشبه ذلك،، وهذا الأسلوب التضميني غير مناسب في مجال التأصيل اللغوي؛ لأنه يوهم أن الفعل أدب إنما يتعدى بحرف الجر، وليس كذلك،، إنما
يتعدى مباشرة ،
الوقفة الخامسة: قولهم: أدب البلاد،، بمعنى ملأها عدلاً،، معناه صيغة: تابع عليهم الأدب؛ لأن فاعل -بفتح العين- يقتضي متابعة الحدث من طرف واحد مثل سافر،
ومن أكثر من طرف مثل ساير،، وليس أدب هاهنا على أفعل، بل هي من باب فاعَل بفتح العين (7) ،
وفي قولهم من جهة المادة معنيان مجازيان:
أولهما: استعمال الأدب بمعنى التأديب - وهو العقوبة والردع-؛ لأن ذلك محصِّل للأدب،، وقلت: استعمال الأدب ؛ لأن آدب بمعنى تابع الأدب،
وثانيهما: استعمال التأديب بمعنى العدل؛ لأن العدل نتيجته،
الوقفة السادسة: ما أنكرته من تعدد المصادر لفعل واحد مشروط بأن يكون معنى الفعل واحداً؛ فإذا كان للفعل معنى آخر جاز أن يكون له مصدر آخر،، مثال ذلك ما
أسلفته من فعل أدبه يأدبه - على وزن ضربه يضربه- بمعنى دعاه؛ فالمصدر هاهنا الأدب بسكون الهمزة،
وجاءت الصيغة بمعنى آخر ذكره الفيومي في المصباح المنير، وهو أدبه يأدبه على وزن ضربه يضربه بمعنى علمه الأدب، ونص عبارته: علمته رياضة النفس، ومحاسن
الأخلاق ،،ومصدر الفعل بهذا المعنى الأدب بفتح الهمزة والدال،، وهذا المصدر ذاته هو مصدر فعل السجايا أدُب بفتح الهمزة وضم الدال، فهو في الأول مصدر من
أدبه غيره، وهو في الثاني مصدر من تأدب بنفسه؛ فالأدب حاصل بالفعلين،
الوقفة السابعة: قرر أبو زيد اللغوي رحمه الله تعالى عبارة أَأدب القوم الى طعامه يؤدبهم إيداباً ، ثم استشهد بقول صخر الغي:
كأن قلوب الطير في قعر عشها
نوى القسب ملقى عند بعض المآدب
وربما يتساءل متسائل: ما وجه الشاهد ما دام الشعر عن المآدب وليس عن أدب إيداباً؟،
قال أبوعبدالرحمن: هو تساؤل في محله، فليس فيه إلا أن المآدب بمعنى الولائم وأماكنها، وأن ذلك جمع مأدبة، وليس فيه دليل على أن الفعل أدب بفتح الدال
بمعنى دعا الناس إلى طعامه،
الوقفة الثامنة: الفعل أدب أصله أَأدب ؛ فهو على وزن أفعل؛ فإذا صح ان ما قاله أبوزيد منقولاً عن العرب، وهو قوله: أدب القوم إلى طعامه : فذلك محمول على
دعوى أن أفعل تأتي بمعنى فعل مثل سعده الله، وأسعده الله (8) ،
والمحقق عندي أن بينهما فرقاً بدلالة الصيغتين، فسعده جعله سعيداً منذ البداية، وأسعده نقل حاله إلى سعادة جديدة،
وقد ذكر الفارابي فارقاً بين أفعل وفعل في قولهم: أفرى الأديم بمعنى قطعه على جهة الإفساد،، وفراه بمعنى قطعه على جهة الإصلاح،،وأقسط إذا عدل، وقسط إذا
جار (9) ،
قال أبوعبدالرحمن: للهمزة دلالة تُحدث معنى فارقاً بين الفعلين، وبيان ذلك في تحرير دلالات حروف المعاني،
والمحقق عندي التفريق بين الصيغتين بأن الاصل في أدب القوم يأدبهم -على وزن ضرب- انه دعاهم ابتداء قبل صنع الطعام، وأن آدبهم (على وزن أفعل) بمعنى دعاهم
عند نضج الطعام والقرب من تقديمه؛ لأن أفعل في اللازم تأتي بمعان تدل على اكتمال الشيء وحينونته مثل: أصرم النخل بمعنى حان وقت صرامه، وألبن الرجل بمعنى
كثر اللبن عنده،، وإذ هذا هو معنى الفعل اللازم: فينظر إليه في المتعدي بأنه أدب القوم لما كان هو مُؤدِباً قد حان وقت مأدبته،
قال أبوعبدالرحمن: وصيغة التعدية هذه صحيحة ولو لم تسمع،، كما أنها تصح في اللازم، فتقول: أدب فلان بمعنى حان وقت مأدبته،
وكلام أبي زيد وصل إلينا بسياقين:
أولهما: يدل على التعدية، وهو ما سبق،
والثاني: يحتمل التعدية احتمالاً ضعيفاً، وهو قوله: أدبت أودب إيداباً وأدبت أدب أدباً؛ لأنه قارن بالفعل المتعدي،، وأدب الثانية مضارع أصله أَأدِب -بكسر
الدال-،
ويحتمل أنه يريد الفعل اللازم، وإنما قارن بالثلاثي المتعدي للتفريق بين مصدري الفعلين،
(1) ديوان الأدب ص 139،
،(2) المصدر السابق ص139،
،(3) المصدر السابق ص139،
،(4) المصدر السابق ص 139،
،(5) أبجد العلو (الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم) 34/2،
،(6) معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ص9،
،(7) انظر عن المهموز على باب أفعل ديوان الأدب 220/4-223،، وانظر ص231-232 عن وروده على فاعَل،
،(8) ديوان الأدب 336/2- 337،
،(9) انظر ديوان الأدب 338/2،


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved