الأدب من الصيغة إلى المادة
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الوقفة التاسعة عند معاني الأدب مادة وصيغة: أن أدبته- بتشديد الدال- تأديباً تعني مادة معنيين:
أولهما: حقيقي وهو تعليم الأدب,
وثانيهما: مجازي وهو الضرب والرجز الذي يحصل عنه أدب,
ومن جهة الصيغة فيعني هاهنا الكثرة كما قال الفيومي,
الوقفة العاشرة: أنني وعدت في اول وقفة بتحقيق الأدب في شعر منظور بن حية
بشمجَي المشي عجول الوثب
حتى أتى أُزبيها بالأدب
والذي أحققه ها هنا ان الادب ها هنا ليست بمعنى العجب، وانما ضلل الشراح فهمهم الخاطىء للبيت، فاستنبطوا منه معنى نسبوه الى لغة العرب وليس منها,, وسبب
التضليل أمران:
أولهما: أنهم ظنوا أن الأدب بفتح الهمزة والدال؛ لانهم رأوا كلمة الوثب مفتوحة الثالث قبل القافية,, والصواب: انها الادب بكسر الهمزة,, والرجز ليس على
لزوم ما لا يلزم من التزام فتح ما قبل القافية بحرف، بل ورد في هذا الرجز ماهو مضموم في موضع الحرف المذكور، وذلك قوله:
غلاّبة للناجيات الغُلبِ
وثانيهما: تفسيرهم الأزبي بالسرعة والنشاط، لأنهم وجدوا هذا المعنى من معاني الأزبي في لغة العرب,
إذن الصواب: ان البيت وارد بالإدب بكسر الهمزة لافتحها، وان المراد بالأدب السرعة,, والبرهان على ذلك من وجهين:
أولهما: ان الشمجى- محركة بفتح الجيم- بمعنى السريعة,, والشاعر وصف سرعة ناقته مشياً ووثباً بقوله:
بشمجى المشي عجول الوثب
وقرر سرعتها بسبقها لغيرها، فقال
غلابة للناجيات الغُلبِ
والإدب بكسر الهمزة يعني السرعة والنشاط، فمن التدني بمعاني الشعر ان تحمل كل مفردات البيت على معنى السرعة؛ فيكون المعنى: سريعة المشي، سريعة الوثب،
وأزبيها اي سرعتها جاء بالسرعة,
بل تفسر الأزبي بمعناها اللغوي الآخر، وهو الضروب المختلفة من السير,, ورشح هذا المعنى ذكره لضربين هما المشي والوثب,, إذن ضروب سيرها جاءت بالسرعة
والنشاط؛ لأنها سريعة,
وثانيهما: ان الإدب بكسر الهمزة وسكون الدال نقلت عن العرب بمعنى السرعة,, ولم ينقل الأدب- بفتح الهمزة وسكون الدال- بمعنى العجب، وانما كان ذلك
استنباطاً، وثمة فرق بين ما نقل عن العرب تنصيصاً، وبين ما فهمه العالم استنباطاً,
الوقفة الحادية عشرة: ان الإدب بكسر الهمزة مصدر ثالث للفعل ادب بفتح الهمزة والدال؛ لأنه يعبر عن معنى ثالث للفعل وهو الاسراع، فأدبته ادباً بمعنى اسرعت
به,
الوقفة الثانية عشرة: ان السرعة من معاني المادة المجازية، لأن الإسراع نتيجة تأديب وترويض,, وهذا المعنى نقله الزمخشري,
الوقفة الثالثة عشرة: نقل الزمخشري: أدبهم على الأمر,, اذا جمعهم عليه,
قال أبو عبدالرحمن: هذا معنى مجازي للمادة، توسعوا من الأدب الى الطعام، فجعلوه أدباً لأي أمر,, ووجه الاجتماع ان المأدوبين يجتمعون على المائدة,,
والاجتماع مجاز لغوي، وعموم الامر مجاز ادبي,
الوقفة الرابعة عشرة: نقل اللغويون استأدب بمعنى تأدب,
قال أبو عبدالرحمن: لابد من تحقيق لمعنى صيغة استفعل ,, قال الفارابي عن هذا الفعل: وهذا الباب بناؤه ان يكون بمعنى سؤال الفعل وطلبه كقولك: استعجلته,, اي
طلبتُ عَجَلته، واستعملته طلبت اليه العمل,, وهو كثير ذُكر بعضه ولم يذكر بعض، ثم يتفرع منه فروع؛ فمنها ان يكون بمعنى تفعّل كقولك: تعظّم واستعظَم،
وتكبّر واستكبر، ومنها ما يكون بمعنى التحوُّل من حال الى حال كقولك: استنسَر البُغاث، واستتيَسَت الشاة، ومنها ما يكون بمعنى عدّ الشيء شيئاً آخر كقولك:
استحسنه واستملحه، ومنها ما يكون بمعنى فعَل كقولك: قرّ واستقرّ,, وبمعنى أفعل كما تقول: أخرَج واستخرج,, ومنها ما يكون بمعنى أنى ذلك، وأصله راجع الى
السؤال والطلب أُخرج على بنائه، وهو قولك: استرقع الثوب، واستحفر النهر، واستحصد الزرع، وهو كثير,
ومنها ما يكون بمعنى لا يراد به شيء من هذا انما هو بناء، وهو نحو قولك: استنجَل الموضع، واسترجع عند المصيبة، واستحلس النبت 1 ,
وقال ابن الحاجب 570- 646ه : واستفعل للسؤال غالباً: اما صريحاً نحو استكتبتُه، او تقديراً نحو استخرجتُه,, وللتحول نحو استحجر الطين، وان البِغاث بأرضنا
يستنسِر,, وقد تجيء بمعنى فعل نحو قرّ واستقرّ 5 ,
وعلق محمد بن الحسن الاستراباذي بقوله: اقول: قوله او تقديراً نحو استخرجته تقول: استخرجت الوَتد,, ولا يمكن ههنا طلب في الحقيقة كما يمكن في استخرجت
زيداً,, الا انه بمزاولة اخراجه والاجتهاد في تحريكه كأنه طلب منه ان يخرج؛ فقولك اخرجته لا دليل فيه على انك اخرجته بمرة واحدة او مع اجتهاد، بخلاف
استخرج,, وكذلك استعجلت زياداً,, اي طلبت عجلته؛ فاذا كان بمعنى عجّلت فكأنه طلب العجلة من نفسه,, ومن مجاز الطلب قولهم: استرفع الخِوان، واسترمّ البناء،
واسترقع الثوب,
ويكون للتحول الى الشيء حقيقة نحو استحجر الطين,, اي صار حجراً حقيقة,, او مجازاً,, اي صار كالحجر في الصلابة، وان البَغاث بأرضننا يستنسِرُ,, اي يصير
كالنسر في القوة، والبغاث- مثلث الفاء- ضعاف الطير,
وقوله بمعنى فعَل نحو قر واستقر,, ولابد في استقرّ من مبالغة,, ويجيء ايضاً كثيراً للاعتقاد في الشيء انه على صفة أصله نحو استكرمتُه,, اي اعتقدت فيه
الكرم، واستسمنته,, اي عددته ذا سمن,, واستعظمته اي عددته ذا عظمة,
ويكون ايضاً للاتخاذ كما ذكرنا في افتعل نحو استلأم,
وقد يجيء لمعان أخر غير مضبوطة 3 ,
قال أبو عبدالرحمن: ها هنا وقفات:
الوقفة الاولى: ليست صيغة استعملته بمعنى طلبت اليه العمل، وانما هي بمعنى جعلته عاملاً عندي,, وهو معنى مجازي وجهه: انه لم يعمل عنده فضولاً، بل عمل
عنده، لانه طلب اليه في الاصل ان يعمل عنده,
الوقفة الثانية: أن استعظم ليست بمعنى تعظم، وانما معناها في المتعدي انه قدر عظمة غيره فاستعظمه,, اي وجده على حال العظمة,, ووجه ذلك مجازاً انه تحرى
عنده العظمة فكان في حكم من يطلبها؛ فهذا طلبه بفكره تقديراً,, اما في اللازم فمعناها استعظم في نفسه اي وجد نفسه عظيماً، فكان في حكم من يطلب من غيره ان
يعظمه,
قال أبو عبدالرحمن: وهكذا تماماً استكبر,
الوقفة الثالثة: وجه المجاز في معنى المتحول انه في حكم من يطلب من الناس ان يجعلوه في حكم الحال التي ادعى التحول اليها، فكأن البغات اراد من الناس ان
يجعلوها في حكم النسور,
الوقفة الرابعة: لا معنى لقول الفارابي رحمه الله بمعنى عد الشيء شيئاً آخر ,, بل معنى استحسنه انه وجده حسناً في اعتقاده وتقديره,, ووجه المجاز انه في
حكم من يطلب موافقة الناس باستحسانه,
الوقفة الخامسة: ليست قر بمعنى استقر,, بل المعنى انه استقر بجهد وكلفة، فكان في كفاحه للاستقرار في حكم من يطلب من العوامل المعارضة ان تجعله يقر,, واذا
اطلق الاستقرار على جماد لا يعقل فذلك مجاز أدبي لا لغوي,
الوقفة السادسة: ليست استفعل بمعنى أفعل، بل استخرج عن جهد، واخرج عن فعلة واحدة,, ووجه المجاز كما سلف في الوقفة الخامسة,
الوقفة السابعة: ما ذكره الفارابي من معنى أنى اي حان هو نفسه المعنى الوضعي للصيغة، وهو سؤال الفعل,, والفارق ان الاول حقيقة لغة وادباً، وان الثاني
حقيقة لغة مجاز أدباً,
الوقفة الثامنة: ليس بصحيح ان استعمالات هذه الصيغة خارجة عن معناها الوضعي، او معانيها المجازية سوى استرجع، فذلك ان كان من الارجاع ففيه معنى الجهد كما
سبق، وان كان حكاية انا لله وانا اليه راجعون على سبيل النحت، فالنحت له تأصيل آخر، ولعله يتاح لتحقيقه مناسبة,
قال أبو عبدالرحمن: أسلفت نصاً للشيخ قاسم القونوي، وتعليقي عليه: ان الآداب في الشرع قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، وقد تكون مما واظب عليه الرسول صلى
الله عليه وسلم، وقد تكون مما تركه بعض المرات,, وإذن فليس المأخذ نوع الحكم التكليفي، وانما المأخذ انه في عداد الفضائل التي يتحلى به المسلم باطلاق، او
مما يتحلى به في باب من الابواب,
وذكرت نصاً مطولاً للاستاذ ادريس الناقوري، وتعليقي عليه ان الأمرين اللذين صدَّر بهما بمعنى واحد من جهة المادة، وانما اختلفت احوال المادة بالصيغة من
ذات الأدب الى التخلق به,
واما التأديب بمعنى العقاب- خفيفاً، او ثقيلاً - فمعنى مجازي,, وجهه انه حامل للنفس على الأدب,
ولا أعلم لمن فرق بين الادب الخفيف والثقيل وجهاً من لغة العرب,
وسوَّى الاستاذ بين الظرف، وحسن التناول,, ولا اعلم لهذه التسوية وجهاً، فالظرف هو الحلية ذاتها، وحسن التناول فعل يدل على ضرب من الظرف,, وهذا معنى مجازي
على التشبيه بالفضائل التي هي مطالب عقلية,, والظرف مطلب جمالي,
والأدب ليس منهج سلوك في الفنون والعلوم والاعمال كما قال الاستاذ؛ لان المنهج سبيل تنظيم وترتيب وتقسيم للفنون والعلوم والاعمال, وانما آداب هذه الاشياء
فضائل شرعت او عقلت من اجل فن بعينه، او علم، او عمل,
والاصطلاح الذي ذكره للأدب، وهو جماليات النص ليس هو الاصطلاح العام، وليس هو الأقدم,, وانما هو الحديث الأخص,
وما نقله عن ابن سلام، وابن قتيبة، والجاحظ من استعمال الأدب في الشعر لا يعني ان ذلك هو مصطلح أهل عصرهم، او مصطلحهم هم انفسهم,, وإنما تكلموا عن جزئية
يشملها المصطلح العام بالأدب، ولا تختص به,
حواشي
،1 ديوان الأدب 436/1,
2 شرح الاستراباذي 110/1,
،3 شرح شافية أبي الحاجب 110/1-112,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved