على الهامش
رابش الكتب,, والأتاري
حسين المناصرة
من المفارقات العجيبة ان يدفع الكاتب أو المثقف القارىء عرق جبينه المغموس بشقاء الحياة لينفق على كتاب انتجه في ظروف الولادة العسيرة,, وقد اشترى كتبا
كثيرة ليثقف نفسه بعرق جبينه ايضا,, ومارس القهر على ذاته عندما انحشر في مكان ما ليقرأ ويكتب,, واختلف مع فلان وفلان في سياق التواصل الثقافي,, وراجع
أطباء كثيرين بسبب امراض عديدة اغلبها ناتج حساسية التخيل,, والتشنج دوما,, والتحول إلى كائن استغرابي,, وسخرية الآخرين الذين لا يقدرون ما ينتج,,
ومع كل هذا الانحدار لا يجد هذا المثقف التعس مردودا كبيرا يرد إليه جوهر كل ما افناه في حياته في سبيل الكتابة العصية إذا كان من الذين لم ينتبهوا من
البداية إلى الطريقة التي يجب ان تؤكل بها الكتف من خلال دخول مستنقع الكتابة الرخيصة الرائجة المدغدغة لأحلام المراهقين والباحثين عن المغامرات العجيبة,,
بل تجد كثيرا من الكتاب ماتوا وهم فقراء,, وكثيرا منهم وسموا بحق بمقولة أدركته حرفة الأدب ، ومعنى هذه العبارة انه عاش في الضنك والفقر والعوز وسوء
الطالع حياته كلها,, إلى آخر ذلك من كل الصفات التي تعني الاهمال والهامشية لمنتجي اللغة الادبية,,
قبل زمن قصير جدا دخل الى احدى المكتبات التي تبيع الكتاب المستعمل أو كما يسميه بعضهم رابش الكتب ، وهذه المكتبات، جزاها الله خيراً، عرفت كيف تعيد
انتاج الكتاب المستعمل بطريقة التداول، فهي تعيد بيع الكتب المستعملة كما هي حال السلع الاخرى مثل الاحذية والملابس القديمة,, فإذا كان لديك مائة كتاب
على سبيل المثال تزعج أهل بيتك، فما عليك إلا ان تشيلها وتتوجه بها إلى مكتبة من هذه المكتبات، وتضعها عندهم لثلاث سنوات على أقل تقدير، وتأخذ على ذمة
الراوي سبعين في المائة من ثمن البيع، أو إذا كنت متعجلا وبحاجة إلى نقود فما عليك إلا ان تقبل بأي ثمن يعرض عليك وأنت خجل عندما تضحي بكتبك التي لم تعد
تهمك في زمنية ما، وإذا حاولت ان تعود لتشتري كتبا من رابش الكتب ، وهذا غالبا ما يحدث، فما عليك إلا ان تحمل كمية وافرة من النقود هذه المرة,,
قلت قبل زمن قصير دخل إلى واحدة من هذه المكتبات وإذا به يجد امرأة تفاوض البائع على مجموعة كتب حزينة مطروحة على الارض باللغتين العربية والانجليزية، وقد
طلبت ثمنها بعد مفاوضات لم يحضرها أربعمائة ريال، وهو صاحب المكتبة يصر على ان يدفع لها مائتين وخمسين ريالا فقط,, ويبدو انه اقحم نفسه في العلاقة الخطأ
بينهما، فوقف ضد صاحب المكتبة ذات الكتب المستعملة، وقال له في شيء من العصبية: يا رجل اتق الله، قبل اسبوعين اشتريت من عندك عشرة كتب بمائة وخمسين
ريالا، وانت الآن لا تدفع مقابل هذه الكومة الكبيرة من الكتب التي تصل إلى مائة كتاب إلا مائتين وخمسين ريالا؟!!,
وهنا ثارت ثائرة الكتبي ، وهذا من حقه، وكاد ان يلقي به إلى الشارع، ولم ينقذه إلا المرأة، استنجدت به، وراحت تعلن ان هذه الكتب لم تبعها الاّ لأنها من
بقايا تركة زوجها المتوفى، وأنها ذكرى غالية من ورائه، ولكن ظروف سفرها هي التي تجعلها تجازف ببيعها,
عدّ حاشر أنفه في المكان الخطأ الكتب فوجدها اربعة وسبعين كتابا، وتناول بعصبية الكتاب الاول منها، فوجد سعره الذي اشتراه به القارئ المتوفى - رحمه الله
،- ان صدقت المرأة - ولا أظنها كاذبة!! ثمانية وأربعين ريالا,
وهنا كادت الامور ان تصبح معركة بينه وبين صاحب المكتبة، الذي ادعى ان رابش الكتب المستعملة هذا أصبح يخنقه يوما بعد يوم، وأن الناس كلهم يريدون ان
يبيعوا كتبهم، وأن هذا السعر الذي يدفعه هو سعر إفراط منه ولا أحد غيره يستطيع ان يدفعه في هذه الكومة، وان عليها ان تأخذ كتبها وتجرب في دكانة اخرى ان
أرادت,, ولكنها متعجلة، وتريد ان تَخلُص من هذا الارث الثقيل ,
نظرت المرأة المسكينة المتعجلة إلى وجه واسطة الخير ، وقالت: ما رأيك؟ وهو لا ناقة له في هذا الامر ولا جمل، وهي امرأة عجوز ، وهو يعد نفسه ابنا لها,
قال لها : يا ستي إما أن تأخذي هذا المبلغ السخيف بدل هذه الكومة الحزينة، أو أن تحملي هذه الكتب وتذهبي بها إلى مكتبة عامة وتتبرعي بها لوجه الله!! ولم
يقل لها إنني مستعد ان اوصلها إلى أية مكتبة عامة، وذلك حتى لا يضع نفسه في دائرة الشك,,
خرجت وقد اخذت الثمن الزهيد,, بحثت عن الكتاب الذي جاء الى المكتبة من اجله,, وجده، فتركته مكانه، وخرج لانه ما ان نظر إلى سعره حتى وجده عشرين ريالا،
ومن غير ان يدخل في مفاصلة مع البائع الذي اصبح ينظر إليه نظرات شزرة خرج يبحث عن الكتاب في مكتبات الكتب الجديدة، لانه ربما كان أرخص في ظل التنزيلات أو
الخصومات !! وربما شعر حينها بمأساة صاحب المكتبة المستعملة، لأن أبخس تجارة هي تجارة الكتب، فالذين خسروا أكثر بكثير من الذين ربحوا,,
إلا ان الأكثر ظلما في عالم الثقافة المقروءة هو الكاتب او المثقف، إذ كل منهما لديه مكتبة صرف عليها دم قلبه حيث كان شراؤها بمبالغ عالية، وهنا المأساة
التي يمكن ان تتصور فيها نفسك تباع من خلال مكتبتك بعد عمر طويل بمبلغ عشرة أو عشر ين بالمائة من سعرها الاصلي، وان هذا المبلغ سيصرف على رغبات احفادك، أو
أولادك الصغار الذين ربما سيشترون به أتاري ليلعبوا سونيكا أليست هذه مهزلة كبيرة، من هنا يتوجب علينا ان نحترم كل الذين يهبون مكتباتهم في حياتهم إلى
المكتبات العامة، لأنها ستصبح صدقة جارية بعد مماتهم على اقل تقدير، بإذن الله تعالى!!،
لماذا قلت أتاري ولم أقل كمبيوتر لان المبلغ الذي طلبته تلك المرأة هو اربعمائة ريال، وهو فعلا ثمن لعبة الاتاري مع شريط ألعاب مجاني,, وما ان تنازلت
الى ثلاثمائة وخمسين ريالا حتى قلت: استغنت عن الشريط، وما ان نزلت الى ثلاث مائة ريال حتى خمنت انها ستدفع من جيبها حوالي خمسين ريالا,, وما ان نزلت الى
مائتين وخمسة وسبعين حتى خمنت انها ستشتري أتاري كورية,, ولما قبلت بالكلمة الوحيدة التي لم يتزحزح عنها الكتبي ادركت ان الطفلتين اللتين تقبعان معها في
السيارة خارج المكتبة ستواجهان مشكلة مع امهما وهي تقنعهما ان يقبلا بأتاري العائلة التي ثمنها مائة وخمسون ريالا، والتي لن تعود صالحة للاستعمال بعد
اسبوع من شرائها,, أما لماذا ربطت بين الاتاري والكتب المستعملة,, فلأن احدهم روى لي ان طفليه يصران على لعب الاتاري بعصبية عالية، وما إن يحجزها عنهما
حتى يهاجما كتبه، ويهدداه بأنهما سيبيعانها بعد موته ليشتريا كل انواع الاتاري,
وعلى أية حال، فالمسألة ليست في درجة هذه الذاتية، وإنما هي في الطريقة التي اضحى فيها الكتاب خارج حلم الاطفال، والنساء، والرجال,, وأصبحت المكتبة
الخاصة في اغلب البيوت تشكل عبئا مرفوضا من الزوجات (وأزواج المثقفات)، ومرفوضة من الاطفال,, ومرفوضة من المكان الذي اصبح يضيق نفسيا بالكتب,, لذلك لا
تستغرب إذا وجدت يوما ما احد الاشخاص يحرج على كتبه في مكان عام، إذ ماذا بامكانه ان يفعل تجاه الهجمة الشرسة ضد كتبه، وايضا تجاه العوز والحاجة إذا
أدركته حرفة الأدب ؟!!,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved