الاستقراء إحصاء علم مسبق
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: كل هوية متميزة عن غيرها؛ ولهذا فالغيرية موجودة بين المثلين، وهي موجودة بين الشبيهين من باب أولى,
والمثلان ما اتفقا في الصفات المحسوسة بلا فرق كفنجالين صنعا من فخار في هيئة واحدة، وقياس واحد، ولون واحد، وتطريز واحد؛ بحيث لا تفرق بينهما رؤية ولمساً
ووزناً,, وإنما تميز بينهما بالإضافة، وبصفة خارج ذاتهما؛ فهذا فنجال من فخار زيد، أو من فخار ذلك المكان، وأن هذا صنع هذا العام، وذلك صنع في العام
الفائت، وهذا فوق أو من يمين، وذاك من يسار أو تحت,, والقبضة التي صنع منها هذا غير القبضة التي صنع منها ذاك,, وربما فرق بينهما بعلامة، وقد تكون المثلية
في عنصر فأكثر، فزيد مثل عمرو في صفة الصوت والنبرة,, وهذا الحصان المصنوع مثل هذا الحصان الحقيقي في الهيئة أو اللون أو الحجم,
أما الشبهية فهي دون المثلية؛ لأنها مقاربة لا مطابقة,
والقياس والاستقراء عملان يقوم بهما الإنسان,, فأما القياس فالغرض منه معرفة التساوي أو المقاربة أو الاختلاف,, والقياس ذاته ليس حجة لا شرعية ولا عقلية؛
لأنه مجرد عمل لا تعرف نتيجته,, وإنما الحجة في الحواس وأحكام العقل حينما ترغم القياس على الانتهاء إلى تساو، أو مقاربة، أو اختلاف,
وعمل القياس إنما لمعرفة التساوي أو التقارب أو الاختلاف في المعاني والأحوال التي في المقيس والمقيس عليه,, أما تنزيل أحكام من الخارج يتساوى فيها المقيس
والمقيس عليه للتماثل أو التشابه,, فذلك أمر زائد على عملية القياس، ودليله إثباتاً أو نفياً من خارج القياس؛ وليس نتيجة حتمية للقياس,
وأما الاستقراء فهو إجراء قانون أثبتته المشاهدة، وحددت معناه اللغة، واقتصر الحكم به على ما هو مشاهد,, قال الإمام أبو محمد ابن حزم: (واحتجوا فقالوا:
لما رأينا البيضتين إذا تصادمتا تكسرتا: علمنا أن ذلك حكم كل بيضة لم تتكسر,, قالوا: وهذا قياس,
قال أبو محمد: وهذا خطأ، ولم نعلم ذلك قياساً، ولكن علمنا بأول العقل وضرورة الحس أن كل رخص الملمس؛ فإنه إذا صدمه ما هو أشد منه اكتنازاً أثر فيه: إما
بتفريق أجزائه، وإما بتبديل شكله,, ولم نقل قط: إن البيضة لما أشبهت البيضة وجب أن تنكسر إذا لاقت جرماً صليباً، بل هذا خطأ فاحش,
وفي هذا القول إبطال القياس حقاً، فبيضة الحنش، وبيضة الوزغة، وبيضة صغار العصافير، لا تشبه بيضة النعام ألبتة في أغلب صفاتها,, إلا أنهما جميعاً واقعان
تحت نوع البيض، وكلاهما ينكسر إذا لاقا جسماً صليباً مكتنزاً,
ونحن لو خرطنا صفة بيضة من عاج أو من عود البقس (1) حتى تكون أشبه ببيضة النعامة من الماء بالماء، ولم تشبه بيضة الحجلة إلا في الجسمية فقط ثم ضربنا بها
الحجر: لما انكسرت,, فصح أن الشبه لا معنى له في إيجاب استواء الأحكام ألبتة، وبطل قولهم: إننا علمنا انكسار ما بأيدينا من البيض؛ لشبهها بما شاهدنا
انكساره منها، وصح أنه من أجل الشبه بينهما وجب انكسار هذه كانكسار تلك!!،
وإنما الذي يصح بهذا فهو قولنا: إن كل ما كان تحت نوع واحد فحكمه مستو,, وسواء اشتبها أو لم يشتبها,
فقد علمنا أن العنب الأسود الضخم المستطيل أو المستدير أشبه بصغار عيون البقر الأسود منه بالعنب الأبيض الصغير,, لكن ليس شبهه به موجباً لتساويهما في
الطبيعة، ولا بعده عن مشابهة العنب الأبيض بموجب لاختلافهما في الطبيعة؛ فبطل حكم التشابه جملة، وصح أن الحكم للاسم الواقع على النوع الجامع لما تحته,
وهكذا قلنا نحن: إن حكمه صلى الله عليه وسلم في واحد من النوع حكم منه في جميع النوع,, وأما القياس الذي ننكر فهو: أن يحكم لنوع لا نص فيه بمثل الحكم في
نوع آخر قد نص فيه، كالحكم في الزيت تقع فيه النجاسة بالحكم في السمن يقع فيه الفأر، وما أشبه هذا؛ فهذا هو الباطل الذي ننكره، وبالله التوفيق,
ومعرفة المرء بأول طبيعته لا ينكرها إلا جاهل أو مجنون، فنحن نجد الصغير يفر عن الموت، وعن كل شيء ينكره، وعن النار (وإن كان لم يحترق قط، ولا رأي
محترقاً)، وعن الإشراف على المهواة,, ونجده يضرب بيده إذا غضب وهو لا يعلم أن الضرب يؤلم، ويعض بفمه قبل نبات أسنانه وهو لم يعضه قط أحد فيدري ألم العض,,
نعم حتى نجد ذلك في الحيوان غير الناطق؛ فنجد الصغير من الثيران ينطح برأسه قبل نبات قرنيه، والصغير من الخنازير يشتر (2) بفمه قبل كبر ضرسه، والصغير من
الدواب يرمح قبل اشتداد حافره, وهذا كثير جداً,
فبمثل هذا الطبع علمنا أن كل رخص المجسة؛ فإنه يتغير بانكسار أو تبدل شكل إذا لاقى جسماً صليباً، وبه علمنا أن كل نار في الأرض وفيما تحت الفلك فهي
محرقة,, لا بالقياس البارد الفاسد، وليس هذا في شيء من الشرائع ألبتة بوجه من الوجوه؛ لأنه لم تكن النار قط منذ خلقها الله تعالى إلا محرقة حاشا نار
إبراهيم لإبراهيم عليه السلام وحده لا لغيره بالنص الوارد فيها، ولم يجز أن يقاس عليها غيرها,, ولا كانت البيضة قط إلا متهيئة للانكسار إذا لاقت شيئا ً
صلباً,, وقد كان البر بالبر حلالاً متفاضلاً برهة من الدهر، وكذلك كل شيء من الشريعة واجب فقد كان غير واجب,, حتى أوجبه النص، وغير حرام حتى حرمه النص؛
فليس هاهنا شيء يجب أن يقاس عليه (3) ما لم يأت بإيجابه نص,, ولا تحريم أصلاً، وبالله تعالى التوفيق,
قال أبوعبدالرحمن: ها هنا وقفات:
الوقفة الأولى: لا غضاضة في قولي: هذه البيضة مثل تلك البيضة إذا صادمت بيضة انكسرتا,, لا غضاضة في هذا القول؛ لأنه تعبير عن حكم ثابت، وليس إثباتاً لحكم
بقياس المثلية لم يثبت قبل ذلك,
الوقفة الثانية: ذلك التعبير ليس تعبيراً عن المثلية في الأحوال والصفات، وإنما هو تعبير عن المثلية في الحكم بين شيئين تحقق فيهما المقتضي وتخلف المانع,
الوقفة الثالثة: صحيح قول أبي محمد: (لم نعلم ذلك قياساً) لأن حقيقة القياس عند أصحابه أن يكون احد المقيسين أصلاً ولابد يقاس عليه,, وها هنا ليست هذه
البيضة أولى من البيضة الأخرى بأن تكون أصلاً يقاس عليه، بل كل واحدة منهما مساوية للأخرى في القياس؛ فكلاهما أصل,, وإنما قسنا بيضة اليوم في تحقق
الانكسار على بيضة الأمس التي انكسرت للسبق الزمني وحسب,
الوقفة الرابعة: ليس مستند الحكم بانكسار البيضة مثلية ولا شبهية، وإنما هو قانون مشاهدة مجرب، وهو أن المكتنز إذا صادم الرخص؛ فذلك التصادم اقتضاءً
للانكسار، وأن المكتنز إذا صادم مكتنزاً في قوته مع قوة التصادم؛ فذلك التصادم مقتض للانكسار، وأن المكتنز إذا صادم مكتنزاً أقل منه؛ فذلك التصادم مقتض
لانكسار الأقل,, وكل ما مر في التجربة عينة واحدة منه: فإن ذلك يحقق الانكسار لوجود المقتضي وتخلف المانع: فإنه قانون طبيعي بشرط معهود المشاهدة المضبوط
باللغة,, وبهذا القانون علمنا أن المثلية والتشبيه والقياس القائم عليهما تعبير عن حكم ثابت بالتجربة، وليس إثباتاً لحكم لم يقع,
الوقفة الخامسة: جعل الإمام أبو محمد هذا القانون من أوائل العقل,, أي من مبادىء العقل الفطرية ألأولى السابقة للخبرة، وليس هذا بصحيح، بل هو ثابت بأول
مشاهدة حسية وجد فيها المقتضي وتخلف المانع,
الوقفة السادسة: كل قانون طبيعي مرهون بحالته من المشاهدة,, ومعنى ذلك أن كل عينات من الوجود جمعتها التجربة الحسية في حكم: فإن ذلك القانون لا يسري الا
على ما عرف من مقتضيات العينات المشاهدة، وعلى ما عرف من الموانع التي تعتورها,, وإذا استجدت خبرة جديدة فلا يمكن ألبتة أن تلغي الخبرة السابقة، بل تبقي
صحتها على حالتها المرهونة قبل الخبرة الجديدة,, مثال ذلك رؤية القمر بالتلسكاب صخوراً وودياناً لا يلغي حقيقته بالنسبة للرؤية المجردة,
الوقفة السابعة: أسلفت أن المثلية أبلغ من الشبهية المقاربة، وأن المثلية تكون في صفة فأكثر,, وحقيقة البيض أنه اسم لمعهود في المشاهدة من صفته أن تكون
قشرته قابلة للانكسار؛ فكل البيض مثل في هذه الصفة,, وما كان من العاج والبقس فهو ليس بيضاً في مفهوم اللغة الذي هو معهود مشاهدة، وإنما هو محاكاة للبيض
في اللون والشكل وحسب؛ فلا يرد ما أورده أبو محمد من هذه المحاكاة على المثلية المعتبرة في الانكسار,
الوقفة الثامنة: التذكير بالشبيه والمثيل، وضرب الأمثلة، وإجراء الأقيسة مطالِبُ للعقل في الطبيعيات والشرعيات، وليس الغرض إيجاد أحكام لم توجد,, ولو كان
الغرض ذلك للزم أن يكون في القياس اصل وفرع,, وإنما الغرض إثبات الفارق المؤثر أو نفيه، وعند نفي الفارق يكون كل من الطرفين أصلاً في ذاته,, وليس أحدهما
أولى من الآخر بالحكم,
والشبهية إذا ثبتت وكانت شبهاً مؤثرا لا تثبت الحكم الخارجي، وإنما تثبت المقاربة، وتعطي العقل ترجيحاً لا يقيناً بأن الأشبه أولى بالحكم له بحكم شبهه عند
التعارض والترجيح,
الوقفة التاسعة: البرهان المنطقي المسمى قياساً، أو قياس شمول عند شيخ الاسلام ابن تيمية هو دليل استقرائي يُلحق الفرد بنوعه، ويلحق النوع بجنسه، وليس هو
برهاناً جديداً، وإنما هو تصنيف لأحكام البرهان المعلوم بتقسيم العينات المشاهدة التي قام عليها البرهان إلا أفراد وأنواع وأجناس وفق ما في البرهان من
عموم مطلق، وخصوص مطلق، وعموم من وجه وخصوص من وجه,, فالاستقراء ضبط لقاعدة المعلوم، وليس إثباتاً لما لم يعلم,
الوقفة العاشرة: الشرع المطهر حكم، ومحكوم فيه؛ فإذا حكم الله على شيء باسمه، ولم يبين أن ذلك الحكم لمعنى او معان موجودة في المسمى: فكل عاقل يعلم أن
تعدية الحكم إلى غير المسمى دعوى على الشرع وافتيات عليه,
وإذا كان المحكوم فيه معنى من المعاني كالاعتداء والطعام والإسكار: فكل عاقل يعلم أن الحكم للمعنى مهما كان المحل؛ فلا معنى لقياس التمر على البر لإثبات
أنهما طعام، ولا معنى لقياس الضرب على القتل لإثبات أنهما اعتداء، ولا معنى لقياس خمر التفاح على خمر العنب لإثبات أنهما مسكران,, بل الحكم للاعتداء
والطعام والإسكار أنى وجدت هذه المعاني,, وإن حصل القياس فهو للكشف عن وجود المحكوم فيه,, أي الواقعة,, أما الحكم فثابت في الخطاب الشرعي للواقعة، مطلوب
إجراؤه تطبيقاً من المكلفين,, وليس سكر خمر التفاح أولى بالحكم من سكر خمر العنب، بل الحكم للسكر أنى وجد، فلا أصل وفرع ثمة,
الوقفة الحادية عشرة: دخل على أبي محمد رحمه الله نوع من المغالطة في قوله عن شبه العنب بعيون البقر: (ليس موجباً لتساويهما في الطبيعة)!!,
قال أبوعبدالرحمن: بل هما متساويان أو متقاربان في الطبيعة من جهة موضوع المثلية أو الشبهية، وهي اللون والشكل في ادراك البصر فحسب,, أما تغايرهما في صفات
أخرى، وأما كون مادة العين غير مادة العنب فذلك أمر خارج محل النزاع,
الوقفة الثانية عشرة: ساوى أبو محمد بين ما عرف بأول الطبيعة، وما عرف بأول العقل، وما عرف بالخبرة,, فأما التسوية بأول العقل فقد ناقشتها في الوقفة
الخامسة,, وأما التسوية بأول الطبيعة وهي الغرائز التي جبل الله عليها الطفل قبل تمييزه العقلي من إبعاده عن النار: فخطأ؛ إذ ليس ذلك مثل العلم بانكسار
الرخص إذا لاقى صلباً وليس هو من علمنا بالطبع (أي بالغريزة),, بل هو علم مشاهدة، ومفهوم لغة ترمز لمعهود المشاهدة عموماً وخصوصاً,
الوقفة الثالثة عشرة: ليست نار إبراهيم عليه السلام باردة غير محرقة فيستثنيها أبو محمد,, ولو كانت كذلك لما سماها الله ناراً، بل هي نار شديدة الإحراق،
ولكن طرأ عليها ما يغير طبيعتها المعهودة بقوله تعالى: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) (سورة الأنبياء /69)؛ اسم النار لمعهود الاقتضاء
وتخلف المانع,
الوقفة الرابعة عشرة: كون أحكام الشرع غير واجبة قبل ورود الشرع ليس حجة لأبي محمد على أنه لا قياس في الشرع، بل أوجب الشرع ما لم يكن واجباً قبل، وأمر
بالقياس في أشياء معينة، ولم يأمر به بإطلاق,, كأمره بقياس المثلية من النعم فيما قتل المحرم من الصيد,, وإنما منطلق أبي محمد من جهتين:
أولاهما: أن العقول لا توجب الإلحاق بالقياس إذا كان الحكم الشرعي متعلقاً بالاسم خاصاً بالمسمى,
وثانيهما: أن أمر الشرع لنا بالقياس في موضع لا يعني أن نقيس نحن في كل موضع؛ لأن تطبيقنا للقياس المأمور به شرعاً تطبيق للنص، وإثباتنا حكماً بقياسنا نحن
دون إذن شرعي تقوُّل على الشرع,, وإنما يسوغ لنا القياس إذا كان الطرفان معاً أصلين ليس أحدهما أولى بالحكم من الآخر، وليست ثمرة القياس ثَم إثبات الحكم،
بل إثبات الواقعة التي تعلق بها الحكم,
،(1) قال الزبيدي عن البقس في تاج العروس 208/8: (اسم شجرة كالآس ورقاً وحباً أو هو شجر الشمشاد، منابته بلاد الروم، تتخذ منه المغالق والأبواب لمتانته
وصلابته، قابض يجفف بلة الأمعاء، ونشارته معجونة بالعسل تقوي الشعر وتغزره إذا لُطِخ به، وتمنع الصداع ضماداً، وبياض البيض تنفع الوتي,, أي الكسر),،
والعاج ناب الفيل,
،(2) يشتر: يشق,
،(3) في الأصل المطبوع: ليست هاهنا شيء أن يجب,
،(3) الإحكام في أصول الأحكام م 2 ج 7 ص 466 - 468,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved