فلسفة الشاهد والغائب
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
التعبير عن البرهان المنطقي بقياس الشمول اصطلاح لم أجده قبل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله,
وللإمام أبي محمد ابن حزم كلام نفيس جداً فرق به بين قياس التمثيل وما اصطلح عليه بقياس الشمول,, وفي كلامه أيضاً ما يقتضي تفريقاً دقيقاً بين الاستقراء
وقياس التمثيل,, قال رحمه الله: وأما تمويههم بذكر النار، ولعل في الغائب ناراً باردة: فكلام غث في غاية الغثاثة؛ لأن لفظة نار إنما وقعت في اللغة على كل
حار مضيء صعّاد,, فإن كنتم تريدون أن شيئاً حاراً يكون بارداً: فهذا تخليط، وعين المحال,
وأما لفظة نار فقد وقعت ايضاً في اللغة على ما لا يحرق، فالنار عند العرب اسم الميسم الذي توسم به الإبل؛ فيقولون: ما نارها؟,, بمعنى ما وسمها، فليس
الاسم مضطراً إلى وجوده (1) كما هو ولا بد، ولكنه اتفاق أهل اللغة,, وليس من قبل أنا شاهدنا النار محرقة صعادة مضيئة: وجب ضرورة أن تسمى ناراً ولا بد، بل
لو سموها باسم آخر ما ضر ذلك شيئاً,, وليس ايضاً من قبل أننا شاهدنا النار على هذه الهيئة: عرفنا أن ما غاب عنا منها كذلك أيضاً، بل قد علمنا أن أهل اللغة
لم يوقعوا اسم نار في الغائب والحاضر إلا على الحار المضيء المحرق الصعاد (2) , فإن قلتم: فلعل في الغائب جسماً مضيئاً بارداً صعاداً؟!,, قلنا لكم: هذا ما
لا دليل عليه، والقول بما لا دليل عليه غير مباح، وقد عرفنا صفات العناصر كلها (3) ,, إلا إن قلتم: لعل الله تعالى عالم بهذه الصفة: فالله تعالى قادر على
ذلك، ولكنه تعالى لم يخلق في هذا العالم مما شاهدنا بالحواس أو بالعقل أو بالمقدمات الراجعة الى الحواس والعقل غير ما شاهدنا بذلك,, ولعله تعالى قد خلق
عوالم بخلاف صفةعالمنا هذا,, إلا أن هذا أمر لا نحققه ولا نبطله، ولكنه ممكن والله أعلم، ولا علم لنا إلا ما علمنا الله، وبالله تعالى التوفيق (4) ,
قال أبو عبدالرحمن: إن هذا النص نفيس؛ لأنه تفريق بين ما علم وشوهد وضبط باللغة,, وما لم يعرف، ولم يضبط باللغة,, ومع هذه النفاسة فلا ضير في إجراء بعض
الوقفات والمداخلات على هذا النحو:
الوقفة الأولى: إذا علمتُ بالمشاهدة المحددة بمدلول اللغة أن النار حارةمحرقة: فلا مجال لأن أتوقع وجود نار باردة غير محرقة؛ فهذا لا يكون أبداً، بل كل
نار وجدت أو ستوجد لابد أن تكون حارة محرقة؛ لأن اللغة استقر مفهومها بهذا المعنى لكل مايسمى ناراً بناء على نار شوهدت,
الوقفة الثانية: الأمور المتولدة كالإحراق والحرارة عن أشياء كالنار إنما تتحقق بشرطي وجود المقتضي، وتخلف المانع؛ فالسمندر دويبة تسبح في النار ولا
تضرها؛ لمانع من الإحراق في السمندر ذاته مع وجود المقتضي للحرارة والإحراق,, ونار إبراهيم عليه السلام كانت برداً وسلاماً لمانع غيبي لا نعلمه، ولمقتضى
للبرودة غيبي لا نعلمه,
وهذا لا يلغي أن من مكونات معنى النار الحرارة والإحراق؛ لأن اللغة تثبت الاسم بالمشاهدة وترتبط بالعقل والحس في كون تحقق المعاني مشروطاً بوجود المقتضي
وتخلف المانع,
الوقفة الثالثة: النار التي أوقدتها أمس من الأرطى، غير النار التي أوقدتها اليوم من عسبان النخل وكربه,, وليس هذا الاختلاف بملغ المعاني العامة
المشتركةلكل ما يسمى لغة ناراً، وإنما هو اختلاف في إضافة النار ووصفها: فهذه نار زيد، وهذه نار عمرو، وهذه نار السبت، وهذه نار الأحد، وهذه نار السمر
والغضا، وهذه نارعروق الزيتون,, وهذه نار سوداء، وهذه نار حمراء، وهذه نار أكثر وقوداً، وهذه نار أقل اشتعالاً، وهذه نار عرفج سريعة الاشتعال والخمود،
وهذه نار سمر شديدة المصابرة,, فكل هذه الغيريات إما بالمضاف إليه، وإما بالوصف,, ولكن الجامع المشترك لكل نار هو الإحراق والحرارة إذا وجد المقتضي، وتخلف
المانع,
الوقفة الرابعة: حكمي بأن نار زيد اليوم التي هي حارة محرقة من سمر ليس قياساً على نار عمرو بالأمس التي كانت حارة محرقة من سمر,, بل هو حكم بمفهوم لغوي
مأخوذ من المشاهدة بأن كل ما اشتعل فأحرق وكان حاراً فهو نار؛ فالمفهوم اللغوي شرط في تسمية ما وجد وما سيوجد عند تحقق المقتضي وتخلف المانع,
الوقفة الخامسة: أن اللغة تحدد المسمى من ذاتياته وخصائصه الموجودة فيه,, أي بمقتضياته,
وإذا علم بالمشاهدة موانع تمنع من الاحتراق كان مسمى النار باقيا بحسبه ومن معانيه الحرارة، والإحراق ، وكان العلم بالمانع استثناء من الحكم على النار،
وليس إلغاء لاسمها,
الوقفة السادسة: نار إبراهيم عليه السلام باردةبإعجاز من الله، ولم يمتنع تسميتها ناراً؛ لأن المراعى في التسمية وجود المقتضي للحرارة والإحراق قبل وجود
المانع,
الوقفة السابعة: تقرير حقائق الوجود إنما يتم وفق حقائق اللغة لا مجازاتها,, وقد أدخل الإمام أبو محمد رحمه الله على نفسه المغالطة بذكره الوسم البارد
يطلق عليه النار؛ فهذا إطلاق مجازي وجهه اعتبار ما كان، وهو أن الوسم كان بميسم حار محرق أحمي على النار؛ فسمي ناراً تجوزاً,
الوقفة الثامنة: يقول الإمام رحمه الله ما معناه: إن اسم النار لا يضطر إلى وجود الإحراق,, وحجته أن الصعاد المضيء الحار المحرق لو سمي بكلمة غير كلمة نار
ما ضر ذلك شيئاً, قال أبو عبدالرحمن: ها هنا غفلة فكرية تبين بتحليل المسألة من وجوه:
أولها: أن الإحراق والحرارة ضرورة علم مشاهد مجرب من كل صعاد مضيء يقوم على الوقود,, وليس في خصوص حرف نون وألف وراء ما يقضي بضرورة كونه اسماً لهذا
الصعاد,
وثانيها: أن اللغة لما استقرت على أن الكلمة من الحاء والألف والراء اسم للمضيء الحار المحرق: كان الإحراق والحرارة ضروري الوجود من مجرد إطلاق اسم نار,,
وليس ذلك لخاصية في الحروف كما أسلفت؛ بل لأن هذه الحروف بعد مواضعة اللغة أصبحت رمزاً للمشاهد,, وما دام الإحراق والحرارة ضروريين في المرموز إليه (وهو
المشاهد): فهما ضروريان في الرمز؛ لأن الرمز محدد لما في الذهن من صور المشاهدة وأحكامها,
وثالثها: لو سمي ذلك المضيء الصعاد الصادر عن وقود باسم آخر غير اسم النار لكان الإحراق والحرارة ضروريي التصور من مجرد تصور معنى ذلك الاسم الجديد,
الوقفة التاسعة: أنني أثبت في إحدى المناسبات ان الاستقراء حجة فيما علم بالشرط اللغوي لمعاني الموجودات المعلومة,, أما ما لم يعلم فعلى المنع أو الوجوب
أو الإمكان حسب البرهان؛ فقد يكون الواجب أو المحتمل استثناء من المعلوم، أو بخلافه، أو مقارباً له بالوصف أو الشبه، والله المستعان,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved