الأزمات بين هيجل وقارئه
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لا أعلم فلسفة أشد غموضاً وتعقيداً مع قدر كثير من الكلام يصل إلى حد الثرثرة مثل فلسفة هيجل,, إن دراساته الجمالية، ودراساته في
فلسفة التاريخ ينبغي أن تكون ميسَّرة؛ لأن الإحساس الجمالي مُذلَّل في الممارسات الإبداعية والتذوقية,, وقل مثل ذلك في الدراسات النقدية,, كما أن التاريخ
متناً وعلماً وفلسفة أقرب إلى الإدراك الشعبي,, ومع هذا كان نتاج هيجل في هذه الحقول شديد الغموض,, إذن الغموض هو الأزمة الأولى بين هيجل وقارئه، وثمة
أزمةثانية وهي مقدار الإصابة والسداد في فلسفته الطويلة بعد تَيَسُّر فهمها,, والنفوس تميل إلى من كان صوابه أكثر من خطئه,, والناس حول هيجل في هذا على
طرفي نقيض، وقد لخص ذلك الدكتور محمد فتحي الشنيطي في طرف يقول: إن نظرة هيجل الفلسفية نظرة عميقة مستوعبة متعددة الجوانب,, وطرف يقول: إن هيجل أسوأ غلطة
في التاريخ الفلسفي!! (1) ,
ولعله يدعم الرأي الثاني أن مستوى هيجل في مراحل الدراسة دون المتوسط,, ومن هذا مستواه لا يقدر على عضل الفلسفة!!,, إذن لعله لا يعني ما يقول!,
وهذا ول ديورانت يُلِّمح إلى طرف من هذه الأزمة فيقول: لقد طلب مرة واحدة أحد الفرنسيين من هيجل أن يجمل فلسفته في جملة واحدة، ولكنه لم يفلح تماماً مثل
ذلك الراهب الذي طُلب منه تعريف المسيحية (وهو واقف على قدم واحدة) فقال: ان تحب الخير لجارك كما تحبه لنفسك,, لقد فضَّل هيجل الجواب على ذلك السؤال
بإخراج عشرة مجلدات، واشتكى (بعد كتابتها، ونشرها، وحديث العالم بأسره عنها) بقوله: لم يفهمني سوى رجل واحد,, وحتى ذلك الرجل لم يفهمني جيداً,, إن معظم
كتاباته تتألف مثل أرسطو من مذكرات محاضراته أو مذكرات تلاميذه التي دونوها أثناء سماعهم لهذه المحاضرات ولم يكتب بيده سوى كتابيه المنطق وعلم تجسد
الروح ، وهما كتابان في غاية الغموض والإبهام,, ويصف هيجل كتاباته بكونها محاولة لتعليم الفلسفة النطق والتحدث باللغة الألمانية، وقد أفلح في ذلك (2) ,
قال أبو عبدالرحمن: الشاهد ها هنا شكوى هيجل نفسه من عدم قدرته على التوصيل، والشاهد أيضاً حكم مؤرخ الحضارة والفلسفة ول ديورانت، وغيره بغاية الغموض
والإيهام في كتابين من أهم كتب هيجل,
وليس العيب في اعتماده على مذكراته ومحاضراته وتسجيلات طلابه؛ فهذا شأن العلماء والمفكرين,, ولا سيما ذوي الأتباع,
وليس العيب في كثرة الأسفار؛ فإن ذلك علامة صحة إذا كثر الصواب، وتيسر الفهم ولو بعد قراءات عديدة، وتحققت أصناف التأليف السبعة التي ذكرها الإمام أبو
محمد ابن حزم,, وأعلاها الابتكار,
كذلك ليس من المطلوب من العالم والمفكر مهما كبر شأنه، أو صغر أن يلخص علمه وأفكاره في كلمة واحدة؛ فإن هذا متعذر,, وموجز الأحكام والنتائج: أن هذا
خطأ، أو صواب,, حق، أو باطل,, جميل، أو قبيح,, خير، أو شر,, أكثر، أو أقل,, أخف، أو أشد,, ملائم، أو غير ملائم,, إلخ,, ولكن الحكم أو النتيجة في خضم
البرهان، والاعتراض، والرد على الشبه المقابلة لا يحصل إلا بعد سطور وأوراق,, بل أسفار!!,
والأحكام والنتائج لا تحصى كثرة؛ فكيف يلخص العالم أو المفكر حصيلته في كلمة؟!،
وأما إفلاح هيجل في تذليل الفلسفة للألمانية فقد نفاه غير ول ديورانت كما سيأتي,
وقال مؤرخ الفلسفة وناقدها الأستاذ الأمريكي هنري ديفيد أيكن ]1912-م[: وليس من السهل أن يقدِّر المرء فلسفة هيجل حق قدرها؛ إذ أن الآراء لم تختلف حول
فلسفة رئيسية بقدر ما اختلفت حول فلسفته، فالبعض ينظر إليه كما نظر القديس توما الأكويني إلى أرسطو: على أنه هو الفيلسوف الذي أتى بمذهب رحب يسع في داخله
كل الفلسفات السابقة الضيقة النطاق!,, والبعض الآخر يعده الخطأ الأكبر الذي ارتُكب في تاريخ الفلسفة!,, وفي هذا غرابة بحق؛ إذ ان كتابة هيجل تتصف بأسلوب
لا شخصي (3) ,, لا يقل في جفافه عن أي كتاب في التقويم الفلكي,, وليس في هيجل (من حيث هو إنسان) أي جانب طريف؛ إذ يبدو أن الهدف الوحيد لحياته كان القيام
بدور كاتم سر المطلق,, ولكن إذا لم يكن في الرجل ذاته من الصفات ما يجذب المرء إليه كثيراً، أو ينفره منه كثيراً: فإن ضخامة تأثيره كانت أمراً لا شك
فيه,,وقد ينفر المرء من فلسفته، ولكن أحداً لا يملك ان يتجاهلها,
ولقد وصف هيجل كتاباته بأنها محاولة لجعل الفلسفة تنطق بالألمانية,, ولو صح هذا: لكانت تلك لغة ألمانية لم ينطق بها أحد قبله,, ولقد وصف البعض كتابة هيجل
بأنها حبلى!,, وهو وصف لا بأس به؛ فهيجل لا يقدم إلينا النتيجة النهائية قط,, بل يظل دائماً ثمةوصف آخر ينبغي إطلاقه، ومنظور جديد ما ينبغي النظر إلى أية
فكرة من خلاله,, والنتيجة هي أن قراءة هذه الكتابات ليست هينة؛ فكتابة هيجل مركزة، مدققة، متقنة، مثقلة بالمعاني,, ونادراً ما يقول ما يعنيه، أو يعني ما
يبدو أنه يقول (4) ؛ فالوصف هو في رأيه ماهية الحقيقة، والنتيجة هي أن الناقد المجهد ييأس آخر الأمر من أن يقول عنه شيئاًلا يكون باطلاً، أو لا يكون
مضللاً,
والصفة الثانية لا تختلف كثيراً في رأي هيجل عن الأولى,, ومع ذلك فإن أسلوبه الذي يغلب عليه اللون الرمادي الباهت له سحره الغريب,, وعندما ننتهي من قراءته
يكون قد فتح أمامنا ( على نحو ما) آفاق عالم فلسفي,, وإذا كانت الأشياء في ذلك العالم لا تتحرك، على طريقتها المعتادة: فإنها مع ذلك تتحرك، والبراعة إنما
تكون في تعلم طريقة رؤيتها (5) ,
وقال أيكن: ومن المؤسف أن نظرية هيجل في التطور التاريخي لا يمكن أن تُفهم فهماً كاملاً دون إشارة إلى ديالكتيكه أو منطقه الشاذ (6) ,
قال أبو عبدالرحمن: جفاف الأسلوب يغتفر في شؤون الفكر التي تقتضي لغة مباشرة، ورصداً رياضياً، ولغة غير مجازية في المفردة ,, ولو حصل الأداء الفلسفي
بأداء جمال فني لا يغلفه ضباب الغموض والاحتمال في الإيحاءات الفنية: لكان ذلك اجتماع الحسنيين,
ولا يشترك في الأداء الفلسفي أن يكون الكاتب غني السيرة الذاتية تاريخياً في حياة أمته,, أو ذاتياً في نطاق رومانسيته,, وكم من خامل النشأة، فقير الأحداث
في حياته يكون أقدر على التفلسف من اثرياء الأحداث في سيرهم الذاتية!,
والمعترف به دون إشكال في هذا التحليل الأيكني: أنه لا يُسلِّمك إلى نتيجة ينتهي إليها استشرافك الفلسفي بعد العناء الطويل مع نصوصه الطويلة الحاشدة
الغامضة!,, فهذه أزمةبين هيجل وقارئه وإن كان أيكن سيلتمس لذلك فائدة أو لذة سأعرج عليها,وهذه الأزمة جرى التعبير عنها بعبارات لاذعة ساخرة مثل كاتم سر
المطلق ,
قال أبو عبدالرحمن: سأنشط إن شاء الله لتحرير مسألة المطلق في فلسفة هيجل، ولكنني أقول مقدماً: إن نتيجة العطاء الهيجلي في المطلق ينطبق عليها الكلمة
الأخرى اللاذعة: فلسفة حبلى ,, ولا ندري متى ستلد وقد مات بعلها؟,, وهل ستلد على المدى، أم ستتبخر إلى رياح إثر نفاخ؟!,
وينطبق عليها ايضاً عبارة: نادراً ما يقول ما يعنيه,,أو يعني ما يبدو أنه يقوله !!,
وينطبق عليها أيضاً وصف أسلوبه بالرمادي الباهت,
والمعترف به دون إشكال في هذا التحليل الأيكني أيضاً: تقرير قضية الغموض، فهو يريدها فلسفة شعبية يفهمها كل ألماني بلغته,, ولكنهم لم يفهموها؛ إذن هي لغة
ألمانية هيجلية وحسب!!,
وأما وصف ديالكتيكه (منطقه) بالشذوذ: فليس الشذوذ قيمة إلا بعد قيام البرهان على أن المألوف هو الحق,, وإنما مجال نقد الديالكتيك الهيجلي من جهتين:
أولاهما: مدى إمكان فهمه مع عسره، وغموضه ، أو أنه لا يعني شيئاً,
وثانيهما: مدى صحته بعد فهمه,
وبعد تقرير هذه الأزمات بين هيجل وقارئه: نجد أيكن يلتمس بعض المخارج التي يفسر بها انجذاب كثير من القراء إلى هيجل؛ لأن ضخامة تأثيره كانت أمراً لا شك
فيه، ولأن النفور لا يعني التجاهل,, وقد ينفر المرء من فلسفته؛ ولكن أحداً لا يملك أن يتجاهلها ,, فهذا مسوغ، وثمة مسوغ آخر، وهو أنه بغض النظر عن
النتيجة: فإن الحيثيات والمداخل مركزة، مدققة، متقنة، مثقلة بالمعاني ,, وثمة مسوغ ثالث، وهو أنه على الرغم من عدم الظفر بنتيجة معيارية: فإن في السياق
سحراً غريباً؛ لأنه يكون قد فتح أمامنا على نحو ما آفاق,, إلخ ,
قال أبو عبدالرحمن: من اليقين عندي أن أيكن يعني بذلك بقاء القارىء متعطشاً مستشرفاً أمام حشد من الأفكار أو الهواجس والظنون لم تنته إلى نتيجة
معيارية!!,
وهذه المخارج التي ذكرها أيكن تأخذ قيمتها الحكمية من تحليل مفصل أجعله على وقفات:
الوقفة الأولى: أن هيجل في أسفاره الكثيرة في علوم مختلفة بالنظر الفكري الفلسفي : ليس متمحضاً للغو والفضول، أو الخطأ والبطلان، أو الشر والقبح,, وليس
كل ما أصاب فيه لا يوصل إليه إلا بالمنهج الفلسفي الهيجلي!!,, إذن الأزمة بين هيجل وقارئه محصورة في الإطار الفلسفي الذي يحيط بنظرته في المعارف؛ فيخطىء،
أو يصيب، أو يبدو لا يعني شيئاً,, وذلك كله عناصر المنهج الجدلي الهيجلي ابتداء من الوعي المباشر وانتهاء بالمطلق المحض,
الوقفة الثانية: أن النفور و عدم القدرة على التجاهل معاً ظاهرة بارزة في هيجل الغامض، أو الذي يبدو لايعني شيئاً,, وفي كل العلماء والمفكرين الواضحين
الذين يعنون مايقولون؛ ذلك أن النافر قد يكون أسير تقليد وعرف، وقد يكون مخلصاً ليقينيات علمية وفكرية باجتهاده الحر المكتمل الأداة، ويجد مذاهب معارضة
له؛ فينفر منها، ولكنه مطالب بروح لامنهج العلمي، والصدق الفكري مع النفس أن يواجه تلك المذاهب، وأن يحصحصها مع مذهبه هو بالبراهين الملزمة للعقول,
الوقفة الثالثة: من خلال الوقفة الثانية ظهر أن المخرج الأيكني ليس من مجرد اجتماع النفور وعدم القدرة على التجاهل بإطلاق,, بل يكون بهذا الطرح: إذا نفر
أناس من مذهب هيجل؛ لغموضه، أو لأنه لا يعني شيئاً: فكيف نفسر عدم قدرة هؤلاء على تجاهل فلسفته؟!,, ثم كيف نفسر ضخامة تأثيره على أناس لم ينفروا
منه؟,,أليس تفسير ذلك أنهم فهموه، ورأوه يعني شيئاً؟,, إذن هو بالتالي غير متعذر الفهم، فليس غموضه انبهاماً مطلقاً، وليس معنى ذلك أنه لا يعني شيئاً!!,
الوقفة الرابعة: يجاب عن أحد الأسئلة في الوقفة الثالثة: أن النافرين عن فلسفة هيجل لم يكونوا متجاهلين لها؛ بل ماحكموا حكمهم فيها إلا لعلمهم بها؛ فكان
النفور نتيجة علم لا تجاهل,, وهم أيضاً بعد النفرة عنها لا يستطيعون تجاهلها؛ بسبب ضخامة تأثيرها,, إذن هم مطالبون بما ذكر في الوقفة الثانية,
الوقفة الخامسة: يجاب عن التساؤل الثاني: أن عظمة تأثيره مفسرة بالأمور التالية:
أ ما ذكر في الوقفة الأولى,
ب أن كتب هيجل عظيمة الحصيلة العلمية فكراً، وشواهد حسية، وثقافة، وفلسفات مأثورة ؛ فهي أداة تثقيف فلسفي في ذاتها سواء أوصل هيجل إلى نتيجة معيارية،
أم لم يصل,, وسواء أكان يعني شيئاً، أم كان لا يعني شيئاً,, ولو كان لا يستفاد إلا من كتب الموافق لتعطل التواصل,
ج إذا تحقق أن هيجل في فلسفته الخاصة لا يعني شيئاً، أو أن غموضه متعذر الفهم: فلا يفسر أخذ الهيجليين الذين لم يخرجوا عن فلسفته قيد أنملة إلا بوصف
بعضهم بأنهم مجرد حواة، ووصف بعضهم بأنهم ذوو قناعة وجدانية لا فكرية,, وكم في الاتباع من حقائق هذين الوصفين؟!,
د الذين تأثروا بهيجل ولم يكونوا هيجليين اتفقوا معه مصادفة بمقتضى ما في الوقفة الأولى، وما في الفقرة (ب) من هذه الوقفة,
ه هناك فلسفات مصممة عمداً على التضليل والمغالطة بجهود يهودية (من خلال الصهيونية السياسية) كالفلسفة الماركسية التي حولت الجدلية الهيجلية إلى جدلية
مادية,, وكل أزمة بين القارىء وفلسفة هيجل تربة خصيبة لأي فلسفة تضليلية,
الوقفة الخامسة: كون الحيثيات في كتب هيجل مركزة، مدققة، متقنة,, إلخ هو مقتضى الفقرة (ب) من الوقفة الرابعة,, وليس الكلام عن علم هيجل الذي ينقله، وإنما
الكلام عن الأزمة في فلسفته التي هي حصيلة ذهنه,
الوقفة السادسة: ليس قيمة هيجل فيلسوفاً أن يثير أفكاراً وظنوناً بلا تفسير ولا حلول، أو بتفسيرغير مفهوم، أو بتفسير غير معقول، أو بلا تفسير,, فالظنون
والأفكار مادة الفلسفة، ونسيجها,, والعبرة في النهاية بالقيمة المعيارية لنتيجة التفلسف,, ولو كانت قيمة هيجل فيما سلف ذكره لكان مجرد مهرج، والله
المستعان,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved