مغامرة الفصل بين لغتي الاشتراك الأدبي (4 - 4)،
حسين المناصرة
إن طريقة الفصل بين لغتي التأليف لا لغات الشخصيات فى رواية ملبسة مثل رواية عالم بلا خرائط لجبرا ومنيف مغامرة يطول شرحها لكن من الناحية المبدئية يمكن
الاعتماد على عنصرين رئيسين فى هذا الجانب لتحقيق الكشف المبدئي عن اللغتين، وهما: اولا المقارنة بين لغتى عالم بلا خرائط وبين لغتي روايات جبرا ومنيف
الاخرى,, وثانيا متابعة التمايز اللغوي على مستوى لغتي (لغة) عالم بلا خرائط ، لأننا نستطيع من خلال عدة إشارات التمييز بين اللغتين ابتداء من مستويات
المفارقة الأسلوبية بين الجمل والفقرات وانتهاء بالأسلوبية العامة لكلا الكاتبين ولكن ماجدوى هذا كله؟ ربما حب المعرفة!! وربما تحقيق منهجية اكاديمية!! ان
هنالك تمايزا واضحا بين جبرا ومنيف وهذا امر قد يكتشفه القارئ المتخصص المطلع على أعمالهما, فلغة جبرا لغة صوفية ثقافية مشبعة بالجسدية والتخيل المتنامي
فى الوهم وهي بالتالي لغة شعرية اقرب الى التكثيف والتوتر والوصف المحلق كما يقول الربيعي,
اما لغة منيف فهي ميالة الى الشفافية التاريخية والى الخرافيات والقصص المستمدة من الف ليلة وليلة والى التعلق بلغة الاغتراب والسخرية والنقد المبطن
والاندماج مع الواقع, ويصور الربيعى ايضا هذه اللغة بقوله انها الجملة الصافية التي تؤدي دورها على أتمه, ومن هذا المنطلق الأسلوبي يمكن التأكيد على ان
الرواية ذات لغتين لهما فضاءان دلاليان مختلفان حيث الفضاء الأول هو فضاء العلاقة بين شخصيتى علاء السلوم ونجوى العامري الجانب الخاص بجبرا ابراهيم جبرا
لأنه موجود بشكل خاص فى رواياته السفينة وصيادون فى شارع ضيق والبحث عن وليد مسعود ويوميات سراب عفان ,, والفضاء الثاني هو فضاء تاريخي أسري خاص
بشخصيتي شهاب السلوم وحسام الرعد وهنا فضاء منيف اللغوي ومن الطريف ان نجد جبرا ابراهيم جبرا بعد صدور رواية عالم بلاخرائط بثلاث سنوات يصدر روايته الغرف
الأخرى وهى رواية تختلف عن رواياته السابقة وعندما سئل عن هذا الاختلاف قال ان هذه الرواية خرجت من عباءة روايته الأولى صراخ فى ليل طويل أول رواية
كتبها عندما كان في مدينة القدس عام 1946 ونشرها عام 1955 وهو ان كان محقا في هذه المقولة من ناحية التشابه بين الروايتين فى الحجم والتكنيك فان
الامر يكاد يختلف من جهة اخرى، تحديدا من ناحية تفسير علاقة هذه الرواية برواية عالم بلا خرائط اذ تشعرنا رواية الغرف الاخرى انها اقرب الى لغة منيف
وكأنها مثلت اعادة صياغة للجزء المأخوذ الذي اخذه منيف من رواية عالم بلا خرائط حيث بقي جبرا مختزنا قناعاته الخاصة بما كتبه الآخر ليخرج فيما بعد
فى رواية خاصة به,, كما ان رواية اخرى بعنوان قصة حب مجوسية لعبد الرحمن منيف تشبه الى حد كبير اسلوب جبرا فى كتابته السردية، ومن هنا نستطيع الجزم
بان للروائيين اسلوبين مختلفين الى درجة كبيرة فى رواية عالم بلا خرائط مع كون جبرا ومنيف قادرين على ان يمتلك احدهما أسلوبية الآخر، لكن يبقى جبرا
هوالأكثر بروزا من الناحية الأسلوبية فى رواية عالم بلاخرائط لانه كاتب لوحات الرواية الثلاث الاولى وهذ ا ماجعل تنامي الرواية اللاحق رهين
الكتابة الاولى او البداية التى بدأها جبرا الذي وصف حال بداية الاشتراك بينهما بقوله انا بيني وبين نفسي قعدت أكتب رواية جديدة, كتبت منها صفحات ثم
توقفت, وكالعادة كان عبدالرحمن منيف يسألني: ماذا كتبت؟ لأن من عادته ان يحرضني على الاستمرار, فقلت له كتبت هذه الصفحات، وأريد أن أقرأها لك قال: هات,
قرأتها له, وفجأة وكان خاطرا فجائيا جدا، فكرت فقلت له, ما رأيك ان تكتب الفصل اللاحق لهذه الرواية فضحك, ضحك وأخذ الأوراق مني وقال هاتها لشوف، وقال" آخذ
الأوراق للبيت أقرأها ونشوف النتيجة, أخذ الأوراق للبيت وبالفعل جاءني بعد يومين ثلاثة بفصل آخر, قرأت هذا الفصل فكان فيه ما حفزني على أن أكتب فصلا لاحقا
فكتبت, قرأه فكتب فصلا لاحقا,,
والفرضية الأخيرة المتسرعة بالنسبة لنا، والتي يمكن تفعيلها، فيما بعد لتحديد اللغتين هي لعبة التوقع, وهذه اللعبة يمكن القول بخصوصها: ان جبرا كتب
اللوحات الثلاث الأولى والرواية تقع في ثلاث واربعين لوحة ثم كتب عبدالرحمن منيف الثلاث التالية وهكذا بالتعاقب التبادلي حتى تمت الرواية التي بين ايدينا،
ومع ذلك فإن هذا التوقع لا يمنع من التداخل في اللوحات من الناحية العددية بحيث يمكن التأكيد على ان الكتابة تمت في إطارية حجم اللوحات لا في عددها لتصبح
ملاحقة تتبع التفريق الدقيق بين اللوحات غاية غير مجدية إلا في مجال ممارسة لعبة المناهج النقدية اللسانية والأسلوبية والشكلانية,, ومع ذلك يمكن من
الناحية المبدئية المعتمدة على بعض الإشارات الأسلوبية تقسيم اللوحات بين الروائيين، دون حسم نهائي على النحو التالي,
لوحات جبرا هي: 1 2 3،8 9 10 14 - 15 20 21 22 27 28 32 33 37 38 39 40 42 43 مرفق,
لوحات منيف هي: 4 5 6 7 11 12 13 16 17 18 19 23 24 25 - 26 29 30 31 34 35 41 36, ملحق,
ومن خلال تتبع مضامين هذه اللوحات سيظهر لنا ان فضاء جبرا هو العلاقة بين نجوى العامري وعلاء السلوم وبالذات اللقاءات العاطفية والحوارات الأدبية
والفلسفية بينهما,, في حين يتشكل فضاء منيف من سيرة حياة علاء السلوم التاريخية وتاريخ الأسرتين الكبريين (السلوم والعامري) وتاريخ عمورية وسيرة حسام
الرعد وأدهم,
وهنا يمكن ان نقول: ان رواية عالم بلا خرائط متكاملة التكوين، وعالمها الذي تصوره هو عالم فيه تنوع وفيه كيانات المدينة والأسر والثقافة والذات مما يشكل
علامة مهمة في تكوين جبرا ومنيف الاغترابي حيث الرواية تشكيل فعلي للاغتراب مكانيا وزمانيا ووعيا ثقافيا وإشكاليا فلسفيا لكونهما يعيشان مغتربين في عمورية
في الرواية المستمدة تاريخيا من اسم عمورية إحدى القرى الست المدمرة في زمن النبي لوط عليه السلام,
وقد نتفق مع صلاح فضل وهو يرى بأن الحكاية هي المظهر الديناميكي للسرد، ولكن المشكلة التي تواجهنا هي الكشف عن هذه الديناميكية في رواية مثل رواية عالم
بلا خرائط المليئة بالحكايات، وهنا قد نجد انفسنا في مأزق حقيقي اذا حاولنا ان نقدم تلخيصا جيدا للرواية، لأنه لا يمكن تلخيص وقائعها كما نلخص رواية ذات
حبكة واحدة فيها حكاية واحدة متسلسلة,, يضاف الى ذلك إشكالية تحديد وشرح عناصر الشكل الروائي الذي يعد عموما من أكثر جوانب الرواية سعة وأقلها امتثالا
للقواعد والقيود كما يرى بعض النقاد,
وبالتالي فلعل الطريقة الفضلى للتعامل مع أية رواية من هذا النوع هي ان نحدد زاوية معينة للمداخلة، وذلك كأن نبحث عن رؤية للعالم في هذا الخطاب الروائي
كصياغة كلية تفضي الى الكشف عن محاولة المؤلف في تلخيص رؤيته للوجود أو على الأقل نظرته الى الحياة اليومية ومن هذه الناحية يمكن ان نفهم المشترك بين
منيف وجبرا على اعتبار انه العامل الحاسم في تبرير هذه الكتابة المشتركة بينهما,
وهكذا لا بد من تحديد قضية جزئية ما للبحث عن التشارك على مستوى الحكاية او مستوى الخطاب (القول) في سياقات الحكاية والأحداث والشخصيات والمكان والزمان
والمرجعية والموروث الحضاري,, وان نبحث ايضا في الجزئيات التي تحدد الرواية فعليا، وهي روائيتها أي تميزها كشكل روائي فني (,,,) بالنظر الى اللغة الروائية
من حيث قدرتها على رفع ما تحكيه الى لغة توحي بأكثر من الحكاية وبابعد من مكانها ومرجعها او بابعد من الحادثة وشخوصها الفاعلين ونرى عن طريق بعض هذه
الجزئيات مدى إمكانية المفارقة بين الروائيين في مجال الفصل بين اللغتين كمغامرة ثقافية معرفية,
واذا كان التكوين الدلالي الموحد في عالم بلا خرائط يستمد وجوده من نظريات التلقي بعيدا عن عملية التشارك في الكتابة فإن تحول هذا البحث الدلالي الموحد
الى بحث دلالي مزدوج مليء بالمخاطر على اعتبار ان المفارقة بين الكاتبين دلاليا مسألة معقدة، لأن الكتابة عن الدلالات والرؤى تتجسد انتاجيا من خلال
الانتماء الى النص، ويصبح الانتماء الى اي من الروائيين في الرواية من جهة الدلالات مسلكية غير سوية لفهم طبيعة التشارك على المستوى الدلالي دون نفي
امكانية ذلك,
وفي ضوء مقاربة التكوين الدلالي المتكامل النصي في عالم بلا خرائط يصبح للحكاية في الرواية منطق ابتعادها عن كل من الروائيين، لأنها اصبحت تتمظهر في شكل
مستقل يمتلك خصائصه الذاتية التي لا علاقة لها من الناحية الوظيفية بالمنتجين او الكاتبين، دون ان ينفي هذا كون العلاقة الهيكلية او الشكلية اللغوية
المصنوعة قادمة من روائيين مختلفين ومتشابهين في الوقت نفسه, ومن هذه الناحية التي تؤمن باستقلالية الدلالة وباستقلالية منطق الحكاية قد لا يصبح هناك مبرر
ان نقول عن الرواية انها عملية شد الحبل بين مبدعين كبيرين لا يتنازل فيها احد منهما للآخر، لأن مثل هذا الشد التنافسي هو اغتراف من عالم الشخصيات المتفق
عليها في زمكانية متفق عليها بلغتين مختلفتين بكل تأكيد شكليا لا دلاليا,
ولا يسعنا في النهاية إلا القول: ان اية مقاربة شكلية لعالم بلا خرائط ستعنى بالدرجة الأولى من الناحية اللغوية بالتفاعل مع هذه الاشكالية المهمة
،(إشكالية الفصل بين اللغتين) خاصة ان الخطاب الأدبي عودنا على ان يكون لمبدع واحد باستثناء الخطابات الأدبية الجمعية الشعبية المجهولة المؤلف والمتعددة
الرواية, واذا اتفقنا من الناحية النقدية الشكلية على اننا استطعنا الوصول الى لغتين مختلفتين في هذه الرواية، وان هذا الوصول يمثل على أقل تقدير أكثر من
خمسين في المائة من الحقيقة الفعلية للتأليف المشترك، فإن هذا يعني مبدئيا إنهاء لغموض التشارك الذي قد يفسر على انه الظاهرة العبثية في الخطاب الروائي او
الظاهرة المترفة التي تجعل من روائيين يغامران في لعبة تشارك لا تقنع المتلقي المتوقع دوما أحادية التأليف في الكتابة الإبداعية لكونها خطابا حميميا نابعا
من الذات الواحدة لا المتعددة، وهذا ما يفسر ندرة التشارك في الإبداع، وحتى هذا التشارك يمكن إحالته الى غير التشارك الاندماجي في نهاية المطاف، كما هو
الحال في رواية عالم بلا خرائط والروايات الثلاث الأخرى,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved