أزمات أخرى بين هيجل وقارئه
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال ابوعبدالرحمن:يواصل هنري د, ايكن النقد الموجه الى فلسفة هيجل بإجمال، فنجد بينها أزمات جديدة اهمها تناقض الفيلسوف ذاته,, الا انه حاول ان يحوله الى
ميزة محمودة!!,, قال: (وربما لن يدهش القارىء، اذ يعلم بعد هذا كله ان هيجل يُتَّهم في كثير من الأحيان بمناقضة نفسه في كل مناسبة,, ولاشك في أن هذا يحدث
بالفعل، ولكنه يستطيع على الاقل ان يؤكد المزايا الكامنة في عيوبه هذه، فالتناقض عنده ليس علامة على التخبط العقلي، وإنما علامة على القدرة الابداعية
والبصيرة,, وعلى الفيلسوف الحق ان يرحب به بوصفه حافزاً على تكوين مركب جديد يكون اصدق تمثيلاً لموضوعه,, وليس للتناقض الذاتي (بالنسبة الى البشر) نهاية،
وبالتالي فلا نهاية للتطور العقلي) (1) ,
قال ابو عبدالرحمن: أضرب للقارىء العربي مثالين من العلم الشرعي:
الأول: عن العالم الذي قرر في اصوله ان الحديث المرسل لايقبل الاحتجاج به مطلقاً، ورد كل حكم يقوم على الخبر المرسل تأسيساً,, ثم بعد اسفار من كتابه قال
بحكم احتج به بحديث مرسل تأسيسا لا ترجيحاً، ولم يورد حجة غير ذلك,, ومنهجه اقامة الحجج على كل برهان,, فهذا تناقض من اكبر العيوب يترتب عليه رد ذلك
الحكم، او تعديل مذهبه في رد الخبر المرسل,, فان اصر على القول ببطلان الخبر المرسل بإطلاق، والأخذ بالحكم الذي لم يورد له حجة غير الخبر المرسل: كان فعله
تحكماً، وتشهياً، وتلاعباً بالفكر، وانه غير مخلص في ابتغاء الحقيقة,
والمثال الثاني: اذا ورد خبران متناقضان,, احدهما يقول: ان الميت يعذب ببكاء أهله عليه,, والآخر ينفي ذلك: كان الاخذ بمدلولهما معاً تناقضاً وإثبات محال
يقتضي الشك في الشرع، والانحلال عنه,, فلابد في عقيدة المؤمن واجتهاده ان احد الخبرين غير ثابت عن الشرع، أو انهما ثابتان بقيود او قيد - فيهما، او في
أحدهما -,
والأول تناقض في السلوك، والثاني تناقض خبري,, ويأتي التناقض في الانشاء (1) ,
اذن التناقض في ذاته من اكبر العيوب، لأنه خُلف وكذب ومحال اذا كان خبراً، واتباع للهوى اذا كان تناقض سلوك، وتكليف بمحال لا يُقدر عليه اذا كان
انشائياً,, اذن لا معنى لقول (أيكن) مادحاً لتناقض هيجل: لكنه أي التناقض يستطيع على الاقل ان يؤكد المزايا الكامنة في عيوبه هذه),،
قال ابوعبدالرحمن: لا ميزة في التناقض الا العيوب الشنيعة التي مر ذكرها عن انواع التناقض,, ويعذر (أيكن) بأنه ينسب الدعوى الى هيجل نفسه، اذ جعل التناقض
علامة على القدرة الابداعية والبصيرة,, إلخ,, إلخ,
قال ابوعبدالرحمن: ان موضوع النقد هنا (فلسفة هيجل) وليس الابداع الفني,, والفلسفة يراد منها ان تكون مصدراً للحق والخير والكمال,, إذن مدح القدرة
الابداعية والبصيرة ها هنا يتعلق بتخليص الحقيقة والقيمة من الأوشاب، والإخلاص لها: بغير تناقض سلوكي، وبغير افتراء عليها بقدرات الخيال على الأوهام
والظنون,
اما كون التناقض بعض المرات قدرة ابداعية في الفنون الجميلة فليس ذلك مجالنا هاهنا,
والتناقض في الحقائق ليس علامة التطور اللانهائي للعقل، وإنما هو علامة على تعرض العقل البشري دائما لهذا الداء حتى يعتصم بالثوابت والايجابيات الفكرية,
ولكن الانصاف يقتضي من (أيكن) وغيره ان يذكر نماذج لتناقض هيجل، وان يقومها على هذا النحو:
أ - هل علم بها هيجل، وعاند؟,
ب - ما مدى تأثيرها على جميع مذهبه؟,
ج - أو ان تأثيرها جزئي,
وقال (أيكن) عن ازمة اخرى تتعلق بسلوكه العلمي: (ومن السهل وسط هذه الغوامض ان تغيب عن بال المرء الدلالة الانسانية لفلسفة هيجل، فكثيراً ما يتهم هيجل
بالالتواء المتعمد,, ولكن لاشك في ان رده هو ان هذه هي الطريقة الوحيدة لتصور حقيقة هي أكثر التواء!,, فالمرء يلمس في فلسفته بأسرها شعوراً طاغياً بتغير
كل الأشياء، وتسلطاً رومانتيكياً للفكرة القائلة بوجود نقص كامن في كل نشاط ونظام بشري,, وهو يجمع على نحو غريب بين القلق والاستسلام، وبين الطموح العقلي
المفرط والتواضع الذي نجح في اخفائه,, وان قراءته لتذكر المرء دائما بعبارة فاوست الخالدة: ليس تماماً أبداً!!,, ففلسفته تعد من وجهة نظر معينة كابوساً في
نظر المنطقي، وافساداً حقيقياً للعقل,, ولكن المطلق الذي هو وحده المعقول والحقيقي تماماً في نظر هيجل يظل مثلاً أعلى للعقل لا يمكن بلوغه، ولا يمكن ان
يدركه الوعي الديالكتيكي المتناهي للانسان الا بوصفه هدفاً يسعى اليه دون انقطاع، ولا يتوصل اليه أو يفهم أبداً,, ولقد أطلق على مذهب هيجل (إن كان هذا هو
الوصف الذي يصدق علي فلسفته) اسم الكوميديا الإلهية الفلسفية (3) ، ولهذا المذهب قطعاً اوجهه الكوميدية,, ولكن ما يعرضه أقرب في المنظر البشري الى المأساة
،(التراجيديا) (4) منه الى الكوميديا,, والحق انه لم يكن من قبيل المصادفة ان هيجل قد حلل في مذهبه الفلسفي الضخم عن الفن معنى المأساة على نحو اعمق مما
فعل أي فيلسوف حديث آخر، فالمأساة في نظره (عقلية وأخلاقية وميتافيزيقية في آن واحد، وهي مظهرلا مفر منه لحياتنا الجزئية المتناهية المتغيرة المنشقة على
ذاتها) (5) ,
قال أبوعبدالرحمن: قول (أيكن): (ولكن لاشك في أن رده أي هيجل هو أن هذه هي الطريقة,, الخ): إن كان هو نص مقاله فمعنى ذلك انه متعمد للغموض,, ولا يتعمده
الا احد اثنين: إما متعمد للتضليل مثل مصممي الفلسفة الماركسية,, وإما متستر على جهل، ومظهر لتمعلم، لأنه لا يعني شيئاً,
وإن كان كلام (أيكن) تعبيرا عن هيجل بلسان حاله: فمعنى ذلك أن هيجل لم يتعمد الغموض والتعقيد، وإنما فرض ذلك طبيعة الموضوع ذاته وتعقده فكرياً,
قال أبوعبدالرحمن: هذا تعليل صحيح، لأنه ظاهرة ملحوظة,, ولكن مع ذلك - ما دام الفيلسوف يعني شيئاً - يظل الغموض قابلاً للفهم بعد معاودات قي القراءة،
وزيادة وسائل ثقافية,, والفيلسوف يجهد نفسه بالإطناب من أجل الإيضاح، والحصر والتقسيم، وتكثير الأمثلة الشارحة والشواهد,
وما أسرف هيجل في طرحه من ذكره النقص الكامن في كل نشاط: يعني التوقف عن دعوى العلم في امور كثيرة، ولا يعني ادعاء العلم بظنون وتخيلات,
وقال الدكتور محمد الشنيطي: (بنى هيجل صرح مذهب فلسفي شامخ، زحمه بمصطلحات ليس من اليسير فهمها، وذلك لأنه يصعد الى آفاق لا يمكن التعبير عنها الا بتصورات
بعيدة عن المألوف,, وموقف هيجل عامة شبيه بموقف كل من هيوم وكنط,, فليس يمكن ان تكون هنالك معرفة لما لا يمكن معرفته,, أو بعبارة آخرى: كل ما يقع خارج
التجربة تماماً نجهله، ولا يمكن معرفته) (5) ,
قال أبوعبدالرحمن: لا أزال في كل مناسبة أذكر بأن تحرير المصطلح الفلسفي - في كل جزئية من البناء الفلسفي - في سياق الفكر البشري تاريخياً هو المدخل لفهم
الفلسفات المعقدة,, وليس عيباً ان يصعد هيجل إلى آفاق لا يمكن التعبير عنها الا بتصورات بعيدة عن المألوف,, وإنما العيب تخلف القابلية للفهم بعد كل
التصورات!!،
وأما عبارة (ليس يمكن ان تكون هنالك معرفة لما لا يمكن معرفته): فصحيحة على إطلاقها,, ولكنها لا تنبطق على دعوى ان كل ما وقع خارج التجربة لا يمكن ان
نعلمه، بل لابد من التقييد بعبارة: (لا يمكن ان نعلمه علم كيفية وكم بالمعاينة)، ولكننا نعلم وجوده، ولوازم وجوده، وآثاره، وقد يتأتى لنا من خلال ذلك وصفه
بالتقريب,, على أن لهذا مناسبة سأنشط لها بحول الله وقوته، وحسبي هنا الإشارة الى أن مالا يُعرف يعني التوقف ولا يعني ادعاء معرفته بسلوك فكري حر يقترح من
الظنون والخيالات كيف شاء,
وبقيت كليمة حول دنو مستوى هيجل الدراسي الذي ألمحت اليه في أول كلام لي عن الأزمات بين هيجل وقارئه: فجوابه: ان الطالب في مراحل الدراسة واقع في احضان
المربي، وملخصات المدرس، ومسحات العلم المنهجية,, وليس كل استاذ عبقريا، بل فيهم الحواة الذين يتلقنون ويلقنون,, وقد يكون الطالب حاد الذكاء ألمعياً
قارئاً ممتازاً، فيمج جفاف المادة، او عقمها، أو عادية المدرس، فيمضي مستعلياً على المادة والمنهج والمدرس مخفقاً في مادته، متفوقا في قراءاته الحرة,, اذن
الضعف الدراسي ليس أمارة خمول موهبة، والله المستعان,
،(1) عصر الأيدولوجية ص 93,
،(2) قال ابوعبدالرحمن: لي كتاب في اللمسات الأخيرة عن التناقض,
،(3) قال الدكتور محمد التونجي في كتابه المعجم المفصل 730/2: الكوميديا مسرحية خفيفة تؤلف للتسلية، وبعث روح البهجة في نفوس الحضور,, وقد نشأت الكوميديا
في أوروبة من الأغاني الجماعية الصاخبة، أو من الحوار حول شعائر الخصوبة في أعياد الإله ديونيسيوس في اليونان, ثم تطورت الكوميديا في الغرب حى بلغت ذروتها
في انكلترة في العصر اليصاباتي على يد شيكسبير، وفي فرنسا على يد موليبر,, ثم ظهرت انواع للكوميديا منها الكوميديا الساخرة، والكوميديا المغرقة في العواطف
والانفعالات، والكوميديا الاجتماعية، وعلى رأس كتابها (شو) و(موم) ,
وقال ص 731 عن كوميديا دانتي: أطلق دانتي على عمله الشعري هذا لقب الكوميديا,, أما نعتها بالإلهية فألحق بها في القرن السادس عشر,, وتعد كوميدياه موسوعة
هائلة لجميع علوم العصر الوسيط، وهي ملحمة من نسج رؤى مؤلفها الخاصة,, يصور الآخرة من خلالها، فهي رحلة عبر عوالمها الثلاثة: الجحيم، والمطهر، والفردوس,,
وقبل الجحيم مكان يدى الليمبو (أي الشفاء)، وهو مخصص لأرواح الاطفال الذين يتوفاهم الله قبل أن يعمدوا، أرواح الوثنيين الفاضلين ممن عاشوا قبل المسيحية),،
،(4) قال الدكتور محمد التونجي في كتابه المعجم المفصل 239/1: تراجيديا هي المأساة، والكارثة، والحادث المفجع,, وهو عمل درامي شعري أو نثري يتتبع مصير شخص
نبيل يندفع الى خرق قانون إلهي أو قاعدة أخلاقية يسببه الكبرياء أو الغيرة او الطموح المفرط، ينتهي به الى الدمار بحادثة مفجعة، بل ينتهي أكثر أبطالها الى
الموت؛ فهي أفجع من الحزن، ولا يعبر عنها البكاء، لأن المشاهد المرعبة، والأحداث الأليمة تُذهل المشاهد,
أول من عُني بالتراجيديا هم الإغريق، واكتسبوا أفكارهم من الأساطير والتاريخ والنبلاء، ومنذ مطلع القرن الثامن عشر، وبعد ازالة طبقة النبلاء، بدأ الأدباء
يكتبون تراجيدياتهم عن رجال الطبقة البورجوازية (الوسطى) ونسائها، ومنذ مطلع القرن العشرين غدت التراجيديا تعني تصوير آلام الطبقة الشعبية: ويستلهمون
مواضيعهم من الشرور الاجتماعية بدلاً من الطباع النفسية عند النبلاء قديماً، كما تحولت مسرحيات العصر الحاضر الى مشاهد الرعب والأحداث الأليمة,
ويعبر باللفظة اليوم عن كل صراع نفسي عنيف، وعن كل ألم دام ,
،(5) عصر الأيدولوجية ص 94 - 95,
،(6) المعرفة ص 139,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved