الحريّة الياسبرزية مجرَّدة من القيمة
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
شعار التراكم الفلسفي
في الزمن الماضي كنا نحن اول من نادى في جماهير الشعب بكلمات الحرية والعدالة والمساواة، وهي كلمات لم تزل تردّد الى اليوم، ويرددها من هم بالببغاوات
أشبه,, ينقضون على طعم الشرك من كل جو وسماء؛ فأفسدوا على العالم رفاهيته كما أفسدوا على الفرد حريته الحقيقية، وكانت من قبل في حرز من عبث الدهماء,
والذين يرجى ان يكونوا حكماء عقلاء من الغوييم، وأهل فكر وروية: لم يستطيعوا أن يفهموا شيئا من معاني هذه الألفاظ التي ينادون بها,, الفارغة الجوفاء،ولا
ان يلاحظوا ما بين بعضها من تناقض وتضارب، ولا ان يتبينوا ان ليس في اصل الطبيعة مساواة، ولا يمكن ان تكون هناك حرية؛ اذ الطبيعة هي نفسها قد صنعت الفروق
في الأذهان والأخلاق والكفايات، وجعلت هذه الفروق ثابتة كثبات الخضوع لها في سننها ونواميسها,, وعجز أولئك ايضا عن ان يدركوا ان الدهماء قوة عمياء، وان
النخبة الجديدة المختارة منهم لتولي المسؤولية هي خلو من التجربة، وهي بالقياس الى ما تتطلبه السياسة عمياء كالدهماء حتى ولا فرق,, واللوذعي وان كان
مجنونا فبوسعه ان يصل الى الحكم، بينما غير اللوذعي ولو كان عبقريا فلا يدرك كنه السياسة,, وهذه الاشياء كلها لم يفقه الغوييم من بواطنها وأسرارها شيئا،
ومع هذا فقد كانت عهود الحكم وحكم السلالات في الماضي عند الغوييم ترسو على هذه الأغاليط؛ فكان الأب ينقل الى ابنه معرفة اصول السياسة بطريقة لا يشارك
فيها احد إلا افراد السلالة، ولا أحد منهم يفتح هذا الباب للرعية,, ومع اطراد الزمن صار معنى احتكار هذا الأمر في السلالات يعروه الابهام والكمود حتى
تلاشى واضمحل,, وهذا بالنتيجة ساعد في انجاح قضيتنا,, البروتوكول الأول ,
،***
المهم القيمة لحب المصير
الفلسفة الوجودية توجه الفرد الى صنع ماهيته بمقتضى الحرية التي يملكها في صراع من الحتميات التي لا يملكها,, لا لشيء إلا ليحقق ذاته!!,, بينما العقل
والأديان تدعو الى العمل مع القدرة، وتحدد قيما نبيلة دنيوية وأخروية للفرد والأمة,, وتحقيق الذات حينئذ يكون ذا مردود خيّر على الفرد والأمة معا في
معادلة حصيفة لا تلقي بالفرد الى العدمية والغثيان والتمرد الأرعن، ولا تجعله أنانيا عبدا لذاته، بعيدا عن هموم أمته,
وفي فلسفة ياسبرز بين الحرية الممكنة والحتميات معادلة عاقلة,, ولكنها خلية من البواعث المعقولة التي تدعو الى تكوين الذات، وخلية من القيم التي تجعل حب
المصير معقولا,, يقول الأستاذ فؤاد كامل: ولكن ماهي العناصر التجريبية التي ينبغي على الوجود ان يحملها على كاهله؟,, انها متعددة ومتباينة الى مالا
نهاية,, غير ان يسبرز يرجعها الى عدد من العناصر الرئيسية يسميها المواقف النهائية أو الحدية ، وهي مواقف لا تخلو من تشابه مع تركيبات هيدجر الوجودية،
وهذه المواقف النهائية تؤدي مباشرة الى العلو ؛ لأن الوظيفة الحقيقية للجد النهائي هو ان يشير الى الما وراء ,
والموقف النهائي الأول هو بلاشك الوجود في موقف ,, وهذا معناه ان المواقف التي يمكن ان نوجد فيها متغيرة، ولكن لابد من ان نوجد دائما في موقف ما ,, وتأتي
بعد ذلك المواقف النهائية الاخرى وهي الموت والعذاب والصراع، وهي مواقف لا يمكن ان يفلت منها انسان,, وهكذا تواجه الأنا مصيرا لا تستطيع تغييره، وهذا
المصير فاجع ؛ فهل يتحدى الانسان قدره؟,
,, لن يكون هذا التمرد على القدر مجديا,, هل يستسلم له؟,, في هذا التسليم هلاكه,, ثمة سبيل واحد مفتوح امامه هو حب المصير على حد تعبير نيتشه, وباحتمال
هذه المواقف النهائية، والتمسك بها طواعية واختيارا: تتعالى عليها الحرية وتتجاوزها في الوقت نفسه الذي تحقق فيه ذاتها,, وهذه هي سمة الوجود الأصيل (1) ,
قال أبوعبدالرحمن: المواقف التي في مستطاع الحرية الانسانية هي نفسها الآنيات والظواهر المكونة لماهية الإنسان,, وعيب فلسفة ياسبرز الإشارة الى موقف ما !!,
قال أبوعبدالرحمن:الجنون الفكري موقف، وتعمد التضليل موقف، والخضوع للشهوة البهيمية ما يسمى بالحق الطبيعي موقف,, فلابد من تحديد الموقف بقيمة؛ لأن هوية
الفرد وماهيته المعتبرة هي ما يكون بها إنسانا، ومعنى الإنسانية اهتداء بالعقل والحس وشريعة خالق العقل والحس لتنظيم السلوك والغرائز,
والإلحاح على الانتقال من موقف الى موقف كأنه دعوة الى تحقيق الديايكتيك الهيجلي من ظاهرة,, الى ظاهرة صيرورة دائما,, ولكنه عند ارتطام المواقف الحرة
بالجبرية الكونية، وتغلب القدر الكوني والله غالب على أمره : لا يشير الى ان ملاقاة المصير امتداد لصيرورات أخرى؛ بل اكتفى بحب المصير!,
وكل ما انتجته وجودية ياسبرز ان صيرورة المواقف في حياة الفرد تنتهي بالتعالي,, وذلك التعالي مجاز ادعائي وليس فعلا متعاليا على الحتميات,, وغايته ان
الفرد يواجه المصير- أو ما يسميه العقلاء الأقدار المذهبة للقوة العقلية، أو البدنية، او المنتهية الى العدم- بالحب؛ لأنه حقق سمة الوجود الأصيل!!,,
ان الفلسفة الياسبرزية انتجت وعظا رخيصا مجردا من الباعث المعياري، ومن الغاية ذات القيمة المؤثرة مثل الطمع في الجنة، والخوف من النار كما هو في الأديان
الإلهية,
ويتحدث محمد سليمان حسن عن حب المصير الياسبرزي فيقول: ما هو المصير، وهل يمتلكه الإنسان، وكيف يحققه؟,, اسئلة واجابات عدة يعبر عنها ياسبرز في نظرته
للوجود الإنساني معتبرا ان المصير يقابل الضرورة المرتبطة بالحرية الإنسانية,, ولكن المصير لديه مُتأت من الخارج، وليس من داخل الذات,, إن مجرد تصورنا
لمصيرنا يعني تصورنا لحريتنا، وكأن الحرية هي التي تحدد مصير الإنسان؛ فهو المصير مجموعة اختباراتي حين لا تكون هذه الاختبارات تعسفية، بل معبرة عن
القانون الباطني لوجودي,, فالذات الإنسانية تختبر نفسها عبر معطيات عدة لتحقيق وجودها؛ فتعبر عن قانونية ذاتها الباطنة، وتمتلك مصيرها، وهي الذات تفشل
عندما لا تستطيع تحقيق وجودها,, أي تفشل في اختبار نفسها كذات باطنية متفردة عندما لا تكون حرة؛ فالوجود الذاتي للإنسان يستسلم للمصير عبر الحرية على أنه
ضرورة لابد منها,, هذا الاستسلام برأي ياسبرز إيجابي ؛ لأن تعلق المرء بالمصير أي بمصيره عبر حريته يتيح له نوعا من الإيمان يستطيع من خلاله الاتصال
بالمتعالي عبر العلو بالذات الإنسانية نحو ذلك؛ فتتحقق الذات، ويكوّن المصير الأسمى (2) ,
قال أبوعبدالرحمن: المراد ان المصير هو النتيجة الحتمية للسلوك الحر، ولكن العبارة كانت ناقصة مختلة؛ لأن قوله: المصير يقابل الضرورة المرتبطة بالحرية
الإنسانية : أسقط السلوك الصادر عن الحرية، والحرية بلا سلوك ليست من عناصر الفلسفة الوجودية الياسبرزية,, كما انه عبر بالمقابل، والصواب ان المصير ليس
قسيما، أو نقيضا، أو ضدا يقابل الضرورة، بل المصير هو الضرورة ذاتها,, أو بتعبير أدق: المصير محمول عليه؛ لأن الضرورة صفة له,
وهذا التفلسف عاجز عن اعطاء المواقف الوجودية الحرة قيمة تسوغها ، وتجعل الوجودي يستعذب المصير ويحبه، وغاية ما فيها من تشويق: القول: بأن الوجود الذاتي
يستسلم للمصير!!,
قال أبوعبدالرحمن: أية ميزة للوجودي في استسلامه للمصير القدري؟!,, ان العاقل السوي الذي يصدر سلوكه عن بصيرة، والعاجز، والشهواني العبثي، والكافر،
والمؤمن كلهم مستسلمون للمصير القدري على الرغم منهم,
وأية ميزة للوجودي اذا أحب المصير القدري لمجرد انه أوضح وجوده بمجموعة المواقف الصادرة عن حريته، المظهرة لماهيته؟!,, ان الميزة في العرفان اليقيني بقيمة
مبهجة قبل المصير وبعده,
وقوله: إن المصير متأتٍّ من الخارج ليس على إطلاقه، بل هناك مصير خارجي خالص كالفقر والغنى، والصحة والمرض,, الى آخر الوضعيات التي تنتهي بالموت,
وحق الفلسفة الوجودية ان تتحدث عن المصير الذي يكون نتيجة للسلوك الحر، وان تفلسفه بهداية الدين الثابت، وضرورات العقل، ومعطيات العلم والخبرة البشرية,
وهجيري الفلسفة الياسبرزية التحدث عن قدرة الوجودي على الفعل وحسب؛ لأن قانونية الذات الباطنة عنده هي معطيات عديدة لاختبارات حققت وجودها ماهيتها ,,
والواقع انه ليس العبرة بمطلق الحرية، ولا بمطلق الفعل، ولا بتكوين ماهية، فالشيطان له ماهية,, وإنما العبرة بحرية وفعل وماهية عن قيم ومعايير,
وفي هذه الفلسفة جملة فارغة إلا من التضليل بأن المواقف الوجودية المطلقة تتيح نوعا من الايمان,, ولم يبين معمول الايمان أي المحمول عليه الايمان ,, وهذا
النوع من الايمان -بعد المصير الحتمي- يصل الفرد بالمتعالي على فرض انهم يريدون حقيقة بالمتعالي رب الكائنات سبحانه ؛ فيكون المصير أسمى!!,
قال أبوعبدالرحمن: على هذا فكل سلوك وجودي لا شرط له إلا صدوره عن اختبارات غير تعسفية: يكون موصلا الى الله,, وان كان مما لا يحبه الله، ولا يرضاه، ولم
يشرعه,, إن هذا المصير الاسمى وعد لكل كافر بالاتصال بالله مادام كادحا أي كدح!!,, فهنيئا لمروجي الوجودية الياسبرزية هذا العنصر الايماني!!,
ويقول محمد سليمان عن قضية الموت: في قضية الموت لدى ياسبرز نجد الأمر أكثر دراماتيكية وصراعا حيال هذا المفهوم؛ فياسبرز يأنف من قضية الحد؛ لأنها تقييد
للنفس تحاول امتلاك الاطلاقية في الحرية كمحاولة للخروج من أطر الموجودات المتعددة,,إلا ان المرء يقف عاجزا امام قضية الموت التي تذهب بصاحبها دون رجعة
،(3) ، وبالتالي تضع حدا لحياته,
لقد حاول ياسبرز ان يضع حلا لهذه الحدية من خلال نفيه لمفهوم الخلود بإدخاله فكرة الموت مع فكرة الفردانية التي تميز التجربة الإنسانية لدى كل فرد، وهو
على العموم يعتبر الموت مثله مثل الميلاد، الألم، الكفاح، الخطيئة، الحب,, الخ ، موقفا نهائيا حيال الأشياء,, بمعنى (4) الموجودات، وحيال الذوات
الإنسانية الأخرى,
لقد حاول الخروج من تلك المفاهيم بإدخال نفسه فيها؛ فشعور المرء بأن حكمته وقوته محدودتان تجعله يكرس نفسه لكي يهب وجوده معنى متميزا,, بمعنى: ان بعد
الحياة موت؛ ولذلك يجب ان نصنع من أنفسنا شيئا يميزنا كموجودات (5) قبل ان نموت,, الموت متواجد ونحن ندركه من خلال فقداننا لمن نحب، ولكن المشكلة في
موتنا نحن,, في موت الذات,, هذا الموت الذي يفهمه ياسبرز بمعنى يختلف عن المعنى الأولي، والذي (6) يعني: فقدان الجسد والروح في مكانية وزمانية محددة,
أما الموت بالمعنى الثاني فيعني: ان يفقد المرء نفسه ومصيره في الوقت الذي يحيا فيه,, أي ان يفقد المرء فيه مصيره كوجود متميز عن الآخر,, سواء أكان الآخر،
طبيعاني تجريبي، أو ذاتي إنساني,, المرء حينما يمتلك نفسه كوجود، ومصيره كتحقق للوجود يمتلك ألا يموت,, الوجود الإنساني كمصير وتحقق إنما هو شيء غير قابل
للفناء، هو هبوط وتوثب,, أنا أهبط عندما أفقد وجودي ومصيري، وأثب الى إثبات وجودي عندما أمتلك مصيري,, الوجود الإنساني لا يموت، لكنه ليس بخالد على
الإطلاق,
إن الموت كما يرى ياسبرز يصبح مشكلة واقعية حينما يرتبط بمشكلة الحب,, أعني حينما يجد المرء نفسه بإزاء الشخص المحبوب الذي نشعر بأنه لا يمكن لأية قوة في
الوجود أن تحيل حضوره الى غياب مطلق (7) ,
لقد ربط ياسبرز بين الحب والموت؛ لاعتقاده بأن الحب هو الاساس الذي يقوم عليه الإيمان بوجود الاشياء,, بواسطته نستطيع ان نشعر بوجود الآخر التجريبي
الطبيعاني والذاتي الإنساني,, كما نستطيع ان نصل من خلاله الى المتعالي الإلهي؛ لذلك: فقدان الحب فقدان قدرة الإنسان على إدراك الآخر والشعور به، وهنا
تموت الذات الإنسانية؛ لأنها تخسر إمكانية إقرارها لوجودها وبالتالي مصيرها,
ونعود الى فكرة الخلود والأبدية؛ لنقول: إن ياسبرز يرفض اي خلود أو أبدية بعد الموت؛ فالإنسان يخاف أو يجزع من أمرين: الأول هو خوف من العدم أو اللاوجود
عندما يموت الجسد ويفنى، وهو الموت الطبيعاني المادي,, والثاني عندما أخاف أو أجزع من أنني لم أصل الى درجة كافية من تحقق وجودي,, أي: ان وجودي غير مكتمل،
فأنا لم أصنع شيئا بعد,, لم اصنع لنفسي مكانا في هذه الوجودات المتعددة، عندها يتساوى عدمي ووجودي,, أشعر بالقلق حيال ذاتي بينما عندما يكتمل وجودي، وأحقق
ما أصبو اليه: فلا أخشى من الموت؛ لأن وجودي باق على الرغم من موتي الطبيعاني، فالخلود والأبدية لدى ياسبرز في العالم وليس خارجا عنه (8) ,
قال أبوعبدالرحمن: نقاش هذا النص لا يختلف عن نقاش النص السابق، وحسبي هاهنا الإشارة الى ان ياسبرز تلاعب بعقول القوم، فأمنهم من هموم الموت الحقيقي وما
بعده، وخدرهم بالموت المجازي,, الموت في الحياة بتعطيل السلوك الوجودي الحر!!,
،(1) أعلام الفكر الفلسفي المعاصر ص211-212,
،(2) دراسات في الفلسفة الأوروبية ص107 عن الفكر الوجودي عبر مصطلحه لابن ذريل,, والأستاذ محمد سليمان لا شخصية له في هذا الكتيب، وليس عنده سوى النقل,
،(3) بل هناك والله الرجعة الأبدية,
،(4) يعني الموت المجازي عنده فإنه من الموجودات كالألم؛ لأنه موت في الحياة!,
،(5) كاف التشبيه هاهنا لحن؛ لأن المراد حقيقة الوصف، لا التشبيه المقارب,
،(6) هذا تفسير لمعنى الموت الأول، وهو المعنى الحقيقي,
،(7) زكريا إبراهيم: التأملات، دار المعارف مصر، دون تاريخ، ص56 محمد سليمان ,
،(8) في الفلسفة الأوروبية ص105-106 عن الفكر الوجودي عبر مصطلحه لابن ذريل,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved