يا سبرز والإيمان الفلسفي!!،
أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري
والماسونية الأممية (الغوييم) تخدمنا خدمة عمياء، بأن تكون ستاراً لنا نحتجب من ورائه نحن وأغراضنا وصور خططنا,, لكن مخططنا المعد للعمل مع التنفيذ يبقى
هذا كله على طبيعته كما يبقى المكان الذي يوجد فيه سراً عميقاً لا يطلع عليه أحد,
والحرية في الموطن الذي ذكرناه الآن لا تكون ضارة، ويمكن أن تجد لها محلاً في اقتصاد الدولة دون أن يسبب ذلك أي أذى للناس في رفاهيتهم، وذلك الموطن هو أن
تقوم الحرية على أساس الإيمان بالله وأخوة الإنسانية غير متعلقة بعقيدة المساواة، وهي العقيدة التي تنفيها نواميس الكون,, وهذه النواميس أوجبت وقوع
التباين في المخلوقات بالخضوع والاتباع,
فإذا ساد الإيمان بالله فيمكن أن يحكم الشعب؛ بأن تقسم الأرض إلى أقاليم، وعلى كل اقليم راعيه الوصي؛ فيسير الشعب راضيا قنوعا تحت إرشاد الراعي الروحي إلى
ما فيه مشيئة الله على الأرض,, وهذا هو السبب في أنه من المحتم علينا أن ننسف الدين كله؛ لنمزق من أذهان الغوييم المبدأ القائل: بأن هناك إلهاً رباً
وروحاً، ونضع موضع ذلك الأرقام الحسابية والحاجات المادية,
ولكي لا نعطي الغوييم وقتاً للتفكير والرؤية فيجب تحويل أذهانهم إلى الصناعة والتجارة، وبهذا تُبتلع جميع الأمم وهي مشغولة بالإنسياق وراء الكسب والغنم،
فتلهو بما في أيديها، ويصرفها ذلك عن الالتفات إلى من هو في نظرها العدو المشترك,, ونقول مرة أخرى: إنه من أجل أن نرى الحرية قد سببت ملاشاة الغوييم إلى
آخر أثر: يجب أن نضع الصناعة على قواعد التنافس والمزاحمة,, ونتيجة ذلك أن ما يسحب من البلاد بالصناعة، ينزلق ويتسرب إلى الأيدي ويمضي إلى المضاربة،
ونهايته بعد ذلك إلينا، فيستقر في حيز طبقاتنا نحن,
البروتوكول الرابع
،* * *
نقل الأستاذ فؤاد كامل كليمة لفيلسوفنا كارل يسبرز أحالها إلى كتابه المجال الأدبي للفلسفة ، وأشار في الحاشية إلى أن ذلك عن نص اجنبي ترجمته مدى الفهم
الفلسفي واستمراريته ترجمة أرمانهيم/ نيويورك 1949م ص 72 (1),, يقول يسبرز: إن من أحزان حياتي (تلك الحياة التي أنفقتها في البحث عن الحقيقة) أن
المناقشة مع رجال الدين كانت تتوقف حيال النقاط الحاسمة؛ إذ كانوا يلتزمون حكماً قطعياً، أو ينخرطون في حديث لطيف دون أن يعيروا انتباههم حقاً لما قاله
المرء,, وهم في نهاية التحليل لا يهتمون حقيقة بمناقشة تلك النقاط الحاسمة؛ ذلك أنهم من جهة على يقين من حقيقتهم على يقين مخيف، ومن جهة أخرى يرون أن
اهتمامهم بأمثالنا من الأشخاص الذين ركبوا رؤوسهم مضيعة للوقت؟,, والاتصال يتطلب الإصغاء والإجابات الحقيقية، ويحرم الصمت والهروب من الأسئلة,, كما أنه
يتطلب فضلا عن (2) هذا كله أن تستمر قضايا الإيمان جميعاً في خضوعها للتساؤل والاختبار,, لا من الظاهر فحسب، بل من الباطن أيضا (3),
قال أبو عبدالرحمن: ليس في هذا النص إلا أن يا سبرز حزين من إيمان رجل الدين الإيمان القطعي بالله سبحانه وتعالى، وأنه - أي رجل الدين - يهرب من أسئلة
الفيلسوف,, ولكن الأستاذ فؤاد كامل ربط هذه الكلمة الموجزة بكلام لديفيد إي روبرنس في كتابه الوجودية والمعتقدات الدينية ليجلي الإيمان الفلسفي عند
ياسبرز بهذه الصياغة: يريد يسبرز إذن أن يحتفظ للفيلسوف باستقلاله إزاء الدين، كما يريده ألا يقف عاجزاً أمام تلك المسائل الحرجة التي يقف حيالها
اللاهوتيون صامتين، بل إن واجب الفيلسوف أن يمضي دائماً التساؤل، وأن يضع المسلمات جميعاً موضع الاختبار والفحص الدقيق؛ ذلك أن يسبرز (رغم (4) اقتناعه
بأن الحقيقة واحدة؛ لأنها تضرب بجذورها في التعالي : فإنه) مقتنع أيضاً بأن اقترابنا من الحقيقة ينبغي أن يتخذ دائماً صورة الحركة المستمرة، وأن يكون
تاريخي الطابع؛ مما يؤكد دور الفرد الممتاز والاستثنائي والفريد ,, والعلامة المميزة لهذا الاستثنائي أنه يجد نفسه خاضعاً لنداء مطلق لا يستطيع أن
يبرهن عليه برهاناً موضوعياً؛ فالحقيقة العلمية تظل صحيحة سواء قبلناها أم رفضناها؛ لأننا لا نمتلكها عن طريق الولاء، بل بواسطة عملية عقلية للتحقق من
صدقها، وهي عملية يستطيع أي عقل آخر من ناحية المبدأ على الأقل أن يقوم بها,, أما الحقيقة الفلسفية فإننا ننسبها إلى أنفسنا حين نكون مخلصين لها، أوفياء
لما توجهه إلينا من نداء مطلق غير مشروط,, غير أن تلبية هذا النداء ليس معناه ازدراء الحقيقة أو المعايير الأخلاقية الشائعة، بل معناه أن الفيلسوف مدفوع
إلى أن يتجاوز هذه الحقيقة وتلك المعايير وهو يدرك إدراكاً أليماً أنه قد يكون مخطئاً في هذا التجاوز,, ولما كان من الممكن أن يلحق به الاضطهاد (سواء اكان
مخطئاً، أم مصيباً): فإن الاضطهاد لا يعني في حد ذاته أن دعوته صحيحة,, فالفلاسفة والرواد الروحيون يلقون الاضطهاد دائماً على أيدي رجال يعتقدون أنهم (أي
هؤلاء الرجال) يدافعون عن النظام والحق الاجتماعي في مواجهة خطر رهيب، وهم في هذا الدفاع على شيء من الحق يتجاهله هؤلاء الفلاسفة والرواد في اندفاعهم نحو
تحقيق رسالتهم,, وقد يكون من التضليل أن نقسم الإنسانية جماعتين: إحداهما استثنائية، والأخرى عادية تقليدية؛ فقد ينشب الصراع بين الاستثنائي والمألوف في
قلب أي إنسان؛ لأن ما من أحد إلا ويشارك في المسؤوليات الجماعية، ومع ذلك فإن كل إنسان يستطيع أن تكون له طريقته الفريدة في الاستجابة للحياة,, بحيث تتضمن
هذه الإستجابة قيما لا يستطيع أي شخص آخر أن يقدرها حق قدرها (5) ,
وعلى هذا فإنه ينبغي أن يوازن السعي الفردي مبدأ آخر يطلق عليه يسبرز اسم السلطة,, والسلطة لا تفرض نفسها عن طريق الإقناع العقلي فحسب، بل عن طريق
القوانين والنظم والمؤسسات,, وقد يصطدم بها الفيلسوف ويثور على قوتها القاهرة,, غير أن هذه الثورة ينبغي ان تكون موجهة لإعادة تشكيل القوانين والنظم لا
إلى القضاء عليها قضاء مبرماً,, ويمكن أن تقاس شريعة السلطة بمدى انتماء الأفراد إليها انتماء باطنياً حراً، وبأنها لا تلجأ للمحافظة على نفسها إلى القهر
والتهديد,, والاختبار الحقيقي للسلطة هو مدى قيامها على المتعالي ، أو بمعنى آخر استنادها على الحب وسعادة المحكومين (6) ,
قال أبو عبدالرحمن: ها هنا وقفات:
الوقفة الأولى: ليس كل رجال الدين يهربون من الأسئلة المحرجة، ولكن بعضهم يعف عن الجدل الفلسفي إذا رأى منحى المغالطة واللجاجة والعناد، وهم هاضمون
الأسئلة التي يقال: إنها محرجة,, وليست بمحرجة عندهم، ولكنهم يبرهنون بالعقل ومعطيات الحس والعلم على أن حقيقة الألوهية لا ترد جوابا لكيف، وكم؟,, وإنما
تعطي ضرورة العلم بوجود الرب سبحانه، ووحدانيته، وكماله المطلق، ووصفه بكل صفة كمال دون كم أو كيف,, وضرورة العلم هاهنا آتية من معضلة وجود الكون الذي لا
يتصور وجوده إلا من منطلقات أربعة,, إلا أنه يحيل ثلاثةً منها العقلُ، ومعطيات العلم:
التصور الأول: أن يكون الكون خلق نفسه,, والإحالة هاهنا أنه قبل الخلق لا شيء وبعد الخلق شيء، فكيف يكون اللاشيء هو الشيء حتى يتصور خلقه لنفسه؟!,
والتصور الثاني: أنه وجد بلا موجد له، وأنه لا أول له,, والإحالة ها هنا أن الكون كثرة، وما فيه من أحياء متعدد المقاصد، محدود القدرات، دائم التغير، وله
نهاية؛ فيحيل العقل وجوده بلا موجد,, وأولية العقل فطرته التي تحيل أفكاره إذا تخلفت، ولا يعترف البشر بأي حقيقة علمية دونها، وهي مبدأ العلة الكافية
المحيلة تصور موجود بلا فاعل، وتحيل النظام في الكون، والغائية، والعظمة بدون فاعل واحد هو أعظم من كل عظيم؛ لأن العظيم لا يوجد إلا من أعظم,, وهكذا بقية
الصفات التي يقوم عليها نظام الكون من قدرة وعلم وحكمة وحياة وقيومية, كما يحيل ذلك مبدأ الهوية- وهو كمبدأ العلة الكافية في ضرورته وفطريته -؛ فليس الكون
هوية واحدة، بل هو مجموعة هويات متعددة المقاصد، محدودة القدرات مع أنه يحكم نظام الكون كله إرادة واحدٍ، وقدرة واحد,, إلخ؛ فالوجود أيضاً يقتضي هويتين
مختلفتين للوجود هما خالق لا راد لأمره، ولا معارض لمراده,, ومخلوق متعدد الهويات من جوامد وأحياء,, والأحياء متعددة الإرادات، ويحكمها إرادة واحد، وقدرة
واحد، وعلم واحد، وقيومية واحد,, إلخ؛ فمبدأ الهوية من خلال مبدأ العلة - المشتق من مبدأ الهوية ذاته - قضى بإرادة واحد، وعلم واحد، وقدرة واحد، وحكمة
واحد، صدر عنه وحده القصد والتدبير الذي يحكم هذا الكون، وقضى بأن العظمة صادرة عن أعظم، والحكمة صادرة عن أحكم؛ لأن الهويات في الوجود تأبى صدور عظمة إلا
عن أعظم، وأية حكمة إلا عن أحكم,
والتصور الثالث: أن يكون وجد مصادفة,, والمصادفة بأي مفهوم لا تنفي مبدأ العلة الكافية؛ لأن العقل بهذا المبدأ لا يقر بالموجود مصادفة إلا بفاعل أوجده
مصادفة,, وإنما يعارض بالمصادفة مبدأ العناية والتدبير والاختراع والقصد,, وهويات الوجود تثبت مصادفات من فعل البشر ينتج عنها ما لا يتم إلا بقصد وتدبير،
فقد يرش حبراً على جدار أو صحيفة فينتج عن ذلك صورة مربع أو مثلث أو زهرة وهو لم يقصد ذلك,, أما وجود هذا الكون فيحيل العقل بناءه على مصادفة دون قصد
لثلاثة أسباب:
أولها: ان كل استقراء علمي لما عرفه البشر من هذا الكون له غاية، وصادر عن قصد، فهذه الشمس منذ وجدت لم تدن من الأرض قليلاً عن نظامها فتصهر الأرض، وهذه
الأناسي تفنى أجيالها حسب آجال مقدرة، ولو بقوا بلا موت ولا تحلل لما وسعتهم الأرض,, وانظم في هذا السلك آلاف الأمثلة، فأي مصادفة هاهنا؟!,
وثانيها: أن العقل بالتجربة - ونتائجها مشتقة من مبدأ الهوية - يحكم باحتمال المصادفة في جزئية من أفعال البشر، ويأبى تفسير كل الكون بذلك وهو ليس من فعل
البشر,
وثالثها: أن المصادفة في جزئية من فعل البشر محكوم بمصادفتها بالنسبة للإنسان الذي وجد من فعله هيئة ليست من قصده,, إلا أن هذه الجزئية من فعل البشر جزء
من الكون؛ فهي صادرة عن إرادة خالق البشر وأفعالهم؛ فلا مصادقة في خلق الله، وكل شيء عنده بمقدار,
والتصور الرابع: تفسير الكون بخالق أعظم من كل عظمة فيه، وأوسع من كل حكمة فيه، وأقدر من كل قدرة فيه، ولا شيء قبله، ولا شيء أقدر منه، ولا شيء أعلم منه،
وهو الأول لا شيء ذا قدرة قبله، ولا شيء ذا حكمة قبله، ولا شيء بعده يغالب أمره,, فهذا تصور حتمي لا يحيله العقل - وإن أصابت بعض العقول حيرة، وحيرة العقل
غير محالة - ,, ووجه الحتمية هاهنا أن العقل ومعطيات العلم,, كل ذلك يمنع بمبدأ العلية تفسير موجود بلا سبب ولا فاعل، ولأنه مع مبدأ الهوية يوجب الوحدانية
في الذات والصفات؛ لأن الذي يسير الكون نظام لا يصدر إلا عن إرادة واحدة كما مر بيانه,, وبهذا ينقطع التصور لأولٍ أعظم وأكبر وأحكم,, إلخ غير الله سبحانه؛
لأن تصور ذلك ينقض حتمية الفكر ومعطياته من تفسير الكون بخالق ليس قبله شيء، وليس معه شيء وله الكمال المطلق,
الوقفة الثانية: للفيلسوف أن يحتفظ باستقلاله إزاء الدين، ومنزل الدين، خالق الكون سبحانه ابتداء من ناحية إعمال العقل والحس في معضلة تفسير الكون بلا
خالق، ولكن ليس له الاستقلال دائماً؛ لأن الدين ليس عارياً من البرهان، والفيلسوف مسؤول عن سمعه كما هو مسؤول عن عقله وحسه,, والسمع بأخبار التواتر، ونقل
الكافة جاء بأخبار الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وآياتهم الحسية والمعنوية، وجاءت كتبهم المطهرة باتفاق في العقيدة والأخلاق وحكم - جمع حكمة -
الشرائع السلوكية وبعض الأخبار,, وكل ذلك يُرغم الفيلسوف إن صدقت نيته على الإيمان,, وجعل الله آثارا مشهودة حسية كبحيرة لوط، وبحيرة قارون، والأحقاف،
وديار ثمود,, إلخ,
وإن رجل الدين سيحزن أعظم حزنا من سايبرز إن هرب عن الأسئلة المحرجة من دلالة السمع والآثار المشهودة التي هي بسبيل مقيم، ويمرون عليها مصبحين,
الوقفة الثالثة: في كلام الأستاذ فؤاد كامل: الحقيقة واحدة؛ لأنها تضرب بجذورها في التعالي ,
قال أبو عبدالرحمن: نحل هذه العقدة بمقارنة للدكتور جميل صليبا,, يقول: إن مذهب الكمون الوجودي يسلم بالتطور التاريخي، والسريان الوجودي,, أما مذهب
التعالي فيحكم عليه ويتعداه,, الأول يلقي على الوجود نظرة أفقية تبدو مراحله فيها ممثلة لالتباس الصيرورة وتناقضها ، والثاني يلقي على الوجود نظرة عمودية
تجعل الحقائق العالية، والمثل المخلدة الثابتة محيطة بالأشياء وناظمة لها (7) ,
وقد أسلفت في سلم المفارقات والعلاقات الياسبرزي أن عنده متعالياً مطلقاً، ومتعالياً مقيداً,, والأخير علو في العالم لا خارجه!,
قال أبو عبدالرحمن: تمعنوا جيدا في حيل الأبالسة,, إن الدين، ومنزل الدين، ورب الكائنات سبحانه - وكل ذلك موضوع للأسئلة التي يحرم الهروب منها (8) -
حقيقة!!,, فهل يكفي هذا لأن يفرح الحواة بهذا الإيمان الياسبرزي بحقائق الدين؟!,, كلا,, إنها عند ياسبرز حقائق ، ولكن بغير مفهوم الحقيقة في لغات
العالم!!,, إنها حقيقة تضرب بجذورها في التعالي!!,, والتعالي كلمة هجاء، وهي لا تعني إلا ما لا يمكن أن يعلم وأرجو أن يأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله,,
إنها محكوم عليها من قبل الفريد الاستثنائي الممتاز بأنها نداء مطلق لا يستطيع أن يبرهن عليه برهانا موضوعيا,
قال أبو عبدالرحمن: ثمة فرق بين برهان موضوعي ومبرهن عليه غير موضوعي,, وهو بلغتهم المغيب الذي لا يكيف ولا يقدر بكم؛ لأنه غير محسوس,, فالبرهان على الله
سبحانه ودينه برهان موضوعي؛ لأنه من ضرورات الفكر ومعطيات العلم والحس,, أي انطلاق من براهين غير المغيب إلى معرفة الغيب الذي يثبت وجوده، أو يثبت وجوده
ووصفه، أو يثبت وجوده مقدار دلالة آثاره على وصفه,, أما المبرهن عليه المغيب فهو حقيقة ثابتة وفق البرهان الموضوعي، والغيب موضوع للبرهان الموضوعي,, ولكن
لا مشاحة في الاصطلاح إذا جعل المغيب غير موضوعي بمعنى أن الحس لا يدركه كيفه وكمه,
الوقفة الرابعة: إيمان ياسبرز بالله وبالدين إيمان فلسفي، وثمة فرق عنده بين الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية (9) ,, فالحقيقة العلمية هي الصحيحة؛
لأنها تجريبية بواسطة عملية عقلية - لأي عقل - يمكنه التحقق من صدقها؛ لهذا لا نمتلكها عن طريق الولاء (10) ,
أما الحقيقة الفلسفية فنحن نصنعها؛ لأننا ننسبها إلى أنفسنا حين نكون مخلصين لها!!,, وهي من نداء مطلق غير مشروط!!,
قال أبو عبدالرحمن: الحقيقة العلمية ليست وقفا على المعروف حسياً بكيفيته وكميته بحيث يستطيع أي عقل معاودة المعاينة للتأكد من صدقها!!,
بل الحقيقة العلمية تشمل الواقع المغيب الذي عرف وجوده ببراهين علمية مجرب صدقها، وهي حتمية في الفكر,, والعلم بالمغيب علم بوجوده، وعلم بصفته بخبر من
يوجب العلم تصديقه، أو من العلم بآثاره الدالة على صفاته,,
والاختلاف هنا بين الحقيقتين (الواقع المشهود، والواقع المغيب) اختلاف في نوعية المعلوم وطريقه أهو علم كيفية وكم بالمعاينة أم علم بالوجود والآثار
والصفات بمعاينة الآثار، وقضاء ضرورات الفكر ومعطيات العلم بموجود معين ذي أوصاف معينة غير مكيفة ولا مقدرة بكم؟!,
والحقيقة الفلسفية ما نتجت عن ضرورة عقلية معطياتها غريزة العقل وما حكم به من براهين العلم مشاهدة وتجربة,, ولا تكون حقيقة إلا إذا كانت يقينية لا يشوبها
احتمال معتبر، أو رجحانية يعارضها اعتبار مرجوح,, والأولى حقيقة في التصور والسلوك، والثانية حقيقة في السلوك ومشروطة في التصور بتخلف معارض أرجح,
ولسنا ننسب الحقيقة الفلسفية إلى أنفسنا؛ بل ننسبها على ما نقيمها عليه من العقل الإنساني المشترك، وضرورات العلم الإنساني المشترك,, وكل مفكر يَنُصُّها
لغيره بوجود مقتضياتها وتخلف موانعها، ويطلب من غيره اليقين المشترك، أو الرجحان المشترك ما لم يوجد زيادة علم تقتضي معادلة جديدة,
وحقيقة الإيمان بالله ودينه موضوع التفكير البشري منذ وجد إلى هذه اللحظة ليس فيها مقتضى لم يطرح، ولا مانع غفل عنه,, وبعملية إحصاء تاريخية من مسار الفكر
البشري يرى العقل أن الكفر إصرار على تجاهل الحقيقة، وأن الإيمان ضرورات علم عقلية فطرية، وعقلية بالحس ومعطيات العلم,
ورَبطُ ياسبرز مسألة الإيمان بالحقيقة الربانية والدينية بمطلق غير مشروط:
له مجال في تحقيق فلسفة المطلق,, وحسبنا ها هنا لفت الانتباه إلى الأغلوطة هاهنا؛ فإن كان المراد بالمطلق صفة معرفتنا بالرب سبحانه الذي هو حقيقة المعرفة
الإيمانية: فذلك مرفوض؛ لأن المعرفة الإيمانية نداء المتعين اللازم من براهين العقل التي هي من ضرورة فطرته، ومن ضرورة حسه، ومن ضرورة علمه وعلم غيره
،(التجربة البشرية),, وبراهين المعرفة الإيمانية تصحح لنا وصفا للمعلوم بالمطلق، وهو كونه ذا الكمال على الإطلاق,, كما أنها تبطل لنا وصفا آخر للمعلوم
بالمطلق، وهو كونه مجردا من كل صفة ثبوتية على الإطلاق، فذلك المطلق بشرط الإطلاق عدم محض,
وإن كان المراد بالمطلق غير المشروط: الإيمان المطلق من أي بينة غير المشروط بأي برهان: فهذا صفة المعتقدات التحكمية، وليس صفة الإيمان بالله ودينه القائم
على البراهين من الأنفس والآفاق,
وياسبرز وغيره لا يُحزنون رجال الدين بالغياب عن عقيدة غير مشروطة بالبراهين، مطلقة من البينات,, وإنما يحزنهم هروب الفيلسوف من الأسئلة المحرجة,, أي
هروبهم من البراهين والبيانات في موارد للحقيقة أهملها الفيلسوف، ويأتي إن شاء الله بيان لتلك الموارد,
الوقفة الخامسة: أن ياسبرز يحدد للوصول للحقيقة افتراضا مسبقا، وهو الاعتقاد بنهج سلوكي تاريخي الطابع، ذي حركة مستمرة,, أي يشترط منهج الكمون الوجودي
الذي يرفض مذهب التعالي، الذي هو القول بعلاقات أبدية مستقلة عن اشتباك الحوادث، مجردة عن شروط الزمان والمكان، ثابتة، مسيطرة، كاملة، لا تضمحل,, وعكس
التعالي (الذي هو الكمون الوجودي) هو السلوك التاريخي الطابع - سلوك الكائنات، وليس سلوك المستشرف للمعرفة، ولكنه افتراضه الذي يحدد سلوكه - الذي يقصر أم
الحقائق العلمية على تحديد الإنسان مكانه في سلسلة المتغيرات الكونية؛ لأن الكون بكل موجوداته يجري إلى الأمام دون مهادنة، وكل لحظة تتجاوز التي قبلها
بصيرورة تُبدِّلُها (11) ,
قال أبو عبدالرحمن: المعرفة البرهانية لا تشترط اعتقادا مسبقا عاما بثبات علاقات حتما، أو تبدلها حتما بتعميم ظاهرة الصيرورة في كل شيء؛ فهذا هو المعرفة
المسبوقة المشروطة بالهوى والرغبة,, أي إقامة المعرفة على غير معرفة,, إن المعرفة رجوع إلى العقل في تصوراته وأحكامه ومعادلاته أمام موضوع للمعرفة
الحكمية، وتأسيس بدهيات غريزية وكسبية أخذها العقل من الحس، والعلم (تجربة البشرية العامة، وتجربةٍ بشرية يُمتحن صدقها بإمكان استعادتها),, وليس لنا في
ذلك أي شرط مسبق غير الالتزام بالبدهيات - التي لا تزال لدى العقل بدهيات - ؛ لأن صدق العقل، وثباته، وتوقف إلحاحه مرهون ببناء البدهية على البدهية لإنتاج
معرفة جديدة؛ فإن تخلى عن بدهياته أو بعضها أصبحت تصوراته تخيلات يفرضها سلوكه لا واقع الأشياء، وأصبحت أحكامه تحكُّمية يمليها سلوك العقل لا ضرورات
الأشياء المحكوم فيها، وأصبحت معادلاته عشوائية يحكمها سلوك العقل الحر، ولا يحكمها الرجحانيات الواقعية المرتبطة بالأشياء المعروفة,
والتجربة البشرية، واستشراف الفكر البشري، وشواهد الكون منذ وجد البشر إلى الآن: لم تسلِّم بأبدية علاقات بإطلاق، ولا بسيلان الصيرورة بإطلاق,, بل عُلمت
الصيرورة في شيء كثير مما عرف، ووُجد الثبات في النواميس والقوانين التي تحكم الكائنات بإذن الله بعاملي تحقق المقتضى وتخلف المانع,, وأنتجت المعرفة
العلمية البرهانية (من غريزة العقل، ومعطيات الحس، والخبرة البشرية) العلم بأن الكون في نظام صيرورته القانونية غير العشوائية محال أن يقوم في الآباد
والأحقاب بغير مدبر يصمد لحفظ الكون، وتقنين تبدله بقيومية وحياة وعلم وقدرة,, إلى آخر الصفات لرب لا يضل، ولا ينسى، ولا ينام، ولا تنقصه حكمة ولا علم ولا
قدرة، ولا يمر لحظة وهو بحاجة إلى شيء ينقصه من ذلك,, فهذا شيء من الثبات أنتجه البرهان العلمي ضرورة، وصاغه النص القرآني تعبيرا عن تلك الحقيقة؛ فقال
ربنا سبحانه: (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) ]سورة فاطر/41[,, أجل إن ذلك ثبات قيومية
تعني ثبات قدرة، وثبات حكمة، وثبات علم,, للخ,
وربنا كل يوم هو في شأن فهذا تعدد وتنوع وصيرورة في مخلوقاته وملكوته، وليس تغيرا فيه سبحانه إلى استكمال لم يكن عنده، أو إلى قصور نتج عن فقدان الثبات في
القدرة المطلقة، والحكمة المطلقة,, سبحانه وتعالى عن وساوس الظنون,, إذن الثبات بمنطق التعالي، والصيرورة بمنطق السلوك التاريخي: لا تكون عقائد تسبق كل
معرفة، ولا تكون ثنائية لا يصح أحدها إلا برفع الثاني,, بل المعرفة كما أسلفت إصغاءة إلى معطيات العقل، ولا شيء يفهم ويحكم به مع غياب العقل، ثم إن
المعرفة قد تنتج صيرورة آنية وقد تنتج صيرورة ذات آنات كثيرة؛ فذلك ثبات نسبي، وقد تنتج ثباتا ازليا لا شيء قبله، ولا شيء بعده,, والوجود خالق ومخلوق، ولا
ثالث لهما، وهو متسع للثبات المطلق، والثبات النسبي، والصيرورة الآنية,, بل هذه المفردات في لغات العالم (الثبات، والتغير) دليل على وجود معناهما في الكون
الرحب,
الوقفة السادسة: أن في كلام ياسبرز مضغاً فلسفياً، وتلاعباً بالعقول، فهو يقسم الإنسانية إلى متدين عادي ليس عنده إلا الإيمان الفلسفي الذي هو حقيقة بغير
مفهوم الحقيقة,, وما أراد النذل إلا أن الإيمان حقيقة وجودية في نفس المؤمن، وليس كالحقيقة العلمية وجودا في الخارج,, وبمقابل المتدين العادي يوجد الفرد
الاستثنائي الممتاز,, وبعد هذا التقسيم الخطير الذي جعل الإيمان بالله وبدينه حقيقة بمعنى أنها من صنعنا يعود فيقول: وقد يكون من التضليل أن نقسم
الإنسانية جماعتين: إحداهما استثنائية,, إلخ ,, كأنه بهذا الاستدراك يريد إنصاف المؤمنين، ثم يأتي الإنصاف بهذه اللغة: كل إنسان يستطيع أن تكون له طريقته
الفريدة في الاستجابة للحياة بحيث تتضمن هذه الاستجابة قيما لا يستطيع أي شخص آخر أن يقدِّرها حق قدرها ,
قال أبو عبدالرحمن: استجابة الجاهل والمجنون تكون موضوعا لدراسة معرفة إنسانية لا علاقة لها بالمعرفة بالله وبدينه؛ فأي تحفة في هذا؟,
التحفة حقيقة أن يقنع المؤمنون ذوو البراهين العلمية بأن معرفتهم ها هنا ليست حقيقة علمية، ولكن استجابتهم لهذه المعرفة الوهمية - إذا جعلت موضوعا للدراسة
،- تتضمن قيما في الدراسات الإنسانية لا يستطيع أي شخص آخر أن يقدرها,,!!،
قال أبو عبدالرحمن: يا إلهي كيف يرضى الحواة - وهم يدَّعون الطلائعية الفكرية في أجيالنا - أن يُعبث بعقولهم هذا العبث، ولا همَّ لهم ولا وَكدَ إلا أن
يصوغوا الفلسفة الأجنبية بالأداء العربي والتقصي في جمع أشتات فلسفة الفيلسوف الذي يتناولونه من كتبه مثل كتب ياسبرز، أو كتب مروِّج له مثل روبرنس في
كتابه الوجودية والمعتقدات الدينية ؟!,, ولكنهم لا يحللونها، ولا يحاكمونها وهي في أخطر المواقف (موقف الكفر والإيمان),, بل تبلغ بهم أنوثة الفكر إلى
التناوم للعبث الإلحادي وتضليله بتأويلات تبرِّئُ الفيلسوف المضلِّل من تهمة العبث الفكري، وتستجيب في نفس الوقت لغاية مراده كإرادة ياسبرز بحقيقة الإيمان
الفلسفي - بالله ربنا - معرفة نصنعها نحن، ولا يضطرنا إليها برهان علمي!!,, وواحد من هؤلاء الحواة - وهم أمامنا كثر - الأستاذ فؤاد كامل,, قال لا فض فوه:
يتخذ كارل ياسبرز الفيلسوف الوجودي من الإيمان موقفا وسطا بين أضرابه من الفلاسفة الوجوديين، فلا هو من المؤمنين المتدينين أمثال كيركجور ومارسل وكارل
بارت وأونامونو، ولا هو من الوجوديين الملاحدة أمثال هيدجر وسارتر,, ولهذا يطلق على إيمانه اسم الإيمان الفسلفي !!,
وقد حقت هذه الصفة على إيمانه؛ لأنه يقف من مسلمات الدين موقف الناقد (12) ,
قال أبو عبدالرحمن: عاشت مواهب رواد الجيل!!, ثم إن موضوع المعرفة هو رب الكائنات سبحانه: فإما إيمان به، وإما جحد له، ولا ثالث لذينك بحيث يكون موجوداً
ولا موجوداً وواحداً ولا واحداً، وخالقاً ولا خالقاً؟!,,
إنها ثنائية صارمة: إما إيمان وإما كفر؛ فياليت شعري: أي إيمان وسط بين إيمانٍ متدين وإلحادٍ كافر سيصوغ لنا فؤاد كامل بيانه؟!,
إن ياسبرز ملحد جَلدٌ، ولكن بمراوغة ومخادعة كبار الشياطين,
وكتبه لكم:
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
،- عفا الله عنه -
،(1) مدخل إلى فلسفة الدين ودراسات أخرى ص 5,, وأول هذا الكتاب الإيمان الفلسفي عند كارل ياسبرز ,, وكان قد نشره في مجلة المجلة س 7 ع 84 ديسمبر عام 1963م,
،(2) فضلاً عن غير صحيحة لغة كما بينت ذلك في مقدمة كتابي مبادىء في نظرية الشعر والجمال على الرغم من استعمال فحول العلماء لها,
،(3) مدخل إلى فلسفة الدين ص 5,
،(4) غم اقتناعه بمعنى اقتناعه الراغم ,, أي الملتصق بالرغام,, مجاز أدبي، ولكنه غير مرتبط في السياق؛ فلابد من رابطة ذات دلالة على المراد مثل على رغم
اقتناعه ,, وأجلى من ذلك على الرغم من ,, فالعبارة لحن من جهة تركيب الكلام الموافق لدلالة السياق,
،(5) ديفيد إي,, روبرنس/ الوجودية والمعتقدات الدينية/ نيويورك, مطابع جامعة اكسفورد، 1959م ص 257 ]فؤاد[,
،(6) مدخل إلى فلسفة الدين ص 5-6,
،(7) المعجم الفلسفي 298/2,
،(8) يعني بحكم العقل,
،(9) قال أبو عبدالرحمن: يلزم من هذه الثنائية القول بازدواج الحقائق؛ بأن يكون الشيء حقا ولا حقا ما دام الكفر حقيقة علمية، والإيمان حقيقة فلسفية,, ولكن
هذه الازدواجية مرفوعة بما هو أقبح، وهو القول بأن الحقيقة الفلسفية من صنعنا؛ فحقيقتها أنها إيمان موجود في نفوسنا وحسب، وليست شيئاً حقيقياً في الخارج,
،(10) يعني الإيمان، واختار له اسم الولاء؛ ليدل على أنه إيمان قصدي حر لم ينشأ عن ضرورة فكر بخلاف الحقيقة العلمية التي هي ضرورة عقل متاحة للتجربة,
،(11) انظر المعجم الفلسفي 298/1,
،(12) مدخل إلى فلسفة الدين ص 5,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved