على الهامش
حسين المناصرة
قصيدة ,, ولو طارت!
هل يجوز لنا أن نتحدث عن جذب النص غير الشعري لناقده، على أساس أن هذا الجذب إغراء لانتاج الكتابة النقدية المتناغمة مع نقد القصيدة الذي جسد في النقد
العربي فضاء نقديا مدرسيا وأكاديميا وصحفيا وثقافياً, تعامل مع النصوص غير الشعرية وكأنها قصائد؟!،
بكل تأكيد، ما زال لدى الناقد العربي، على وجه العموم شعور متكرس في وعيه أو لا وعيه، يحيله دوما الى ان يصنم نقده لصالح الثقافة الشعرية الحافلة
بالمقولات النقدية التذوقية والمعيارية، بدءا من وعي موسيقى الطبيعة الصحراوية المترامية الأطراف,, وانتهاء بكر ونشوء المدينة الآثمة المنتهكة لعذرية
الصحراء الصافية في أيامنا هذه التي تجعل من راكب الطائرة او مشاهد القنوات الفضائية يرتهب رهبة الغثيان الشعري او يلتذ لذة التمتع بإنشاده، فيشعر هذه
الشاعرية تحاصره وهو يقرأ قصة او يستمع لتمثيلية أو يشاهد لوحة تشكيلية، وكأنه لم يعرف إلا مسلكية الشعر تجاه النصوص الأخرى، حتى اصبحنا نردد مصطلحات
شعرية الرواية، وشعرية التشكيل، وشعرية السينما، وشعرية المكان,, كما نقول شعرية القصيدة، ونبرز هذه الشعريات بتعريف الشعرية على أساس انها استنباط
قوانين أي خطاب أدبي وغير أدبي وبالتالي كل ظاهرة في الوجود، استنباطا من داخل النص/الظاهرة، الملغي لاية مرجعيات او قوانين خارج النص، مع مراعاة كون داخل
النص إشكالية جامعة بين الحضور والغياب, وليس القصد هنا الدخول في مغامرة الكتابة عن الشعرية وإنما بيان انتقال عنوان كتاب أرسطو فن الشعر أو في الشعرية
من ماضيه البعيد الى حاضرنا الأكثر حداثة,, لجره ضمن النظريات الحديثة على النصوص الأخرى غير الشعرية,
ونحن ندرك ان تاريخ الديوان الشعري العربي، الممتد الوارث لحضارات اخرى، انتج مصطلحات الشعر الجمالية في اللغة والصور والموسيقى والعواطف والأخيلة
والشخصيات والأحداث والأمكنة والدلالات,, داخل القصائد بطرق معيارية او انطباعية او نظرية، وجرها بالتالي من هذا الفضاء الى فضاء النصوص الأخرى غير
الشعرية كالسردية، والدرامية، والتشكيلية والسينمائية,, لنشعر إزاء بعض المقاربات للرواية، او للمسرحية، او اللوحة التكعبية,, وكأننا نقرأ نقدا مفصلا في
ثوب نقد القصيدة، موشى ببعض زخارف محدودة مكتسبة من نقد هذه الفنون بطريقة شكلية في كثير من القراءات، ليصبح النقد من ألفه الى يائه نقدا شعريا مستخدما
مصطلحات القصيدة ومقولاتها، وكأنها (الشعرية) اصبحت القوانين المستنبطة من داخل اي خطاب آخر غير شعري، وكأن النقد الشعري اصبح أبا النقود وماسخها,
والنقاد في فاعليتهم هذه يستسهلون كتابة مقولات النقد الشعري بطرق اسقاطية مختلفة، توهم بانها نقد سردي او تشكيلي او درامي، لأن الثقافة المهيمنة في
دواخلهم هي ثقافة الشعر الآمنة المستقرة القابلة للهذيان النقدي في اي فضاء إبداعي آخر، وهنا تحدث الكارثة عندما يعتقد بعض هؤلاء أنهم اصبحوا نقادا شاملين
متكاملين، وهم يحللون النصوص كلها مهما كان جنسها في سياق نقد الشعر، ولا مانع عندهم من خلال هذا النهج الاستعباطي ان ينظروا لانفتاح النصوص الإبداعية
بعضها على بعض لتبرير نقودهم ذات الطابع الشعري، الانطباعي، التأثري، في أحيان كثيرة، وتمريرها في الوسط الثقافي المثقف (المروي) منذ مولده بهذه الثقافة
الثابتة المهيمنة ليبدو المتلقي غير مكترث بغربلتها او تنحيتها عن مجال مقاربة السرديات على سبيل المثال، التي تحتاج لقوانين خاصة بها، هي قوانين السردية
إحدى تفريعات الشعرية على ذمة التلاعب بالمصطلحات!!،
وهنا تصبح ثقافة النقد الشعري هي ثقافة النقد التي تتشكل في لغة معيارية شعرية واحدة، ووحيدة قوية او ضعيفة، مبررة أو غير مبررة، عميقة او سطحية، بصور
مكثفة او مترهلة، بإيقاعات مألوفة او غرائبية، وكأن المنقود مهما كان جنسه او تداخلت فيه الأجناس هو قصيدة على طريقة عنزة ولو طارت والعنزة هنا القصيدة
لغة إبداعية او لغة نقدية,
ومن هذا المنطلق يبدو حجم مقاربة رواية تقع في اربعمائة صفحة مساويا لحجم نقد قصيدة تقع في اربع صفحات، لأن الفراغ المطلوب ملؤه بلغة النقد يستوعب
المفردات نفسها دون تمييز جوهري بين حجم نص وآخر، او بين لغة وأخرى، او بين جنس وآخر,, فالمهم هو إفراغ الوعي النقدي المستقر شعريا في ذات الناقد لتقاس
اللغة بمقياسي إيجابية الشعر وسلبية غير الشعر، والذات المبدعة ذات شاعرية تعبر، وترسم، وتتلقى، وتسمع، وتتحاور بالكلمات الشعرية في السرد والتشكيل
والدراما,, وعناصر النص كلها تتلون بصيغة الشعر (بكسر الشين),, هذه الصيغة التي تتحول الى منهجية هولامية يلوح بها أصحابها في وجه النصوص كلها، ثم
ينتهكونها، متلذذين باكتشافاتهم النقدية الشعرية في أجساد الكتابات غير الشعرية، فتمسي أجساد الخطابات غير الشعرية جسد القصيدة، ولغتها، وشكلها الباطني،
وزمانها، ومكانها، وصورها وإيقاعاتها,, الخ,
ان لغة الشعر، كما هو معروف، غزت لغات الأجناس الأخرى، وخصوصاً في سياق الكتابات المعاصرة، وهذا الغزو بحد ذاته ليس ظاهرة سلبية، لأن اللغات نفسها
المغزية، هي لغات غازية ايضا للشعر عندما نجد البنى السردية والتشكيلية والدرامية جزءا مهما في فضاءات الشعر على نحو القصيدة السردية، والقصيدة النثرية،
والقصيدة التشكيلية، والقصيدة الدرامية,,إلخ,
ولكن الخلاف، ينتج من خلال إلغاء الجماليات الخاصة بالنص الآخر غير الشعري، لتفعيل جماليات النقد الشعري داخل هذه النصوص المغارة نظريا وتطبيقيا، وهذا
التفعيل يغدو بشكل عام قراءات اسقاطية، ينتج من خلالها الناقد نفسه في النص من خارج النص وليس العكس، مما يفقد النقد تنوعه وتخصصه، وفي هذا السياق لن يعود
النص السردي على سبيل المثال نصا ذا لغات، ورؤى وعلاقات، وحركيات زمنية ومكانية، وأجناس أدبية وغير أدبية وطرق سردية,, متعددة متفرقة بدرجات على اللغة
الشعرية، لأن النص السردي الحواري نص ضخم في عناصره كافة، وفيه يشكل رافد الشعرية بمفهومها الخاص في الشعر جزءا من قوانين النص السردي الذي لا حق لنا،
إطلاقاً ان نتصوره قصيدة او عنزة ولو طارت لأنه نص مختلف، ويحتاج الى منهج مختلف أيضا,
والغريب ان بعض الذين يسلطون سيف القصيدة النقدي على النصوص الأخرى نجدهم يتعرون من هذا السيف، اذا احرجوا وطلب منهم ان يعترفوا بقصيدة النثر في دائرة
الشعر، علما بأن قصيدة النثر اقرب النصوص المتداخلة الأجناس الى القصيدة المعيارية,, وقد يصل الحد ببعضهم ان يجاريها، لانها من وجهة نظرهم فرية، وبنية
هدم، وظاهرة عجز وتشويه!!،


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved