نص اللغة المألوفة المكثفة
حسين المناصرة
كيف كسرت لغة الإبداع الجديدة سياق كلاسية رصانة اللغة واستعلائها الرسمي، او غرائبيتها واغراقها ترميزيا في دائرة الصفوة العليا من المثقفين؟
كان هذا الكسر عن طريق الاتجاه الى المألوف واختزال النصوص في كتابة مكثفة جدا، شعراً ونثراًو لتشكيل تيمة مهمة بدأت تميز كتابة الشباب من جيلي
الثمانينيات والتسعينيات تحديداً,
والمألوف هو ان النصوص اضحت تحتفل باللغة العادية الوسطى الشائعة بين الناس عاديي الثقافة، في تراكيب لاتحتفل باللغة الرصينة الشائعة كما هو حال النصوص
الكلاسية، او تحتفل بالرموز الثقافية، كما هو حال نصوص التجريب لدى جيل الحداثة الاول,, والمبدعون هنا امسوا عاديين بسطاء في حياتهم وثقافتهم، ولاتوجد
عندهم قيم اسطورية كبيرة او بطولية,, وكأنهم اضحوا مهزومين متسعكين غيرمغامرين، ولكنهم واعون مدركون للاشياء بحساسية، يعترفون بهامشيتهم، ويمارسون لغة
الهامش، ليس سلباً,, وإنما ايجاباً,, فكانت المفارقات والجمل القصيرة الدالة فضاءهم,,
والازمنة المعاصرة عموما، رغم مأساويتها القاتلة، لم تعد ازمنة حاسمة تاريخية في وعي الإنسان الذي اصبح يعيش في ظل كابوس هيمنة القوة الآلية المدمرة،
وكابوس الفردية الانتحارية، لهذا بدت اللحظات الأليفة في حياة المبدع الجديد تهتم بمأساة موت قطة، وبلحظة تسكع، وبمشهد تلفازي، وبفكرة عابرة,, وكأن
المبدع، كما نزعم ، غير قادر على صياغة عمل كبير لطرح قضية وجودية كبرى، امسى يشعر بانه ليس طرفا حاسما في التفاعل معها، على الاقل في امكنة العالم
الثالث، هذه الامكنة التي لم تعد تمثل امكنة قدسية نظيفة جميلة بالنسبة له، وإنما بدأت تظهر في صورة امكنة عادية كئيبة، يراها الانسان يوميا في مشاهدها
غير المبالية دوما,,!!،
وهذا الإحساس بالنمطية العادية هو الذي اكد على ان الكتابة الجديدة لم تعد موهبة كبيرة، ينظر اليها المتلقون باحترام، كما كانوا يفعلون في الماضي، ولم تعد
الكتابة زراعة ميتافيزيقية في إنسان دون آخر,, بل هي تفاعل ثقافي مدرب جماليا ولغويا ، ينتج تجربة عادية مالوفة في نصوص لها جماليات قلت ام كثرت، فتقرأ
القصيدة القصيرة جدا التالية:
قطاف
لا أحس برأسي
بعد ان
نضج,
أو القصيدة التالية
اختيار
أنا
وأنت
واحد
يفكر مرتين (القصيدتان من ديوان جد سابع للصمت لسعد الهمزاني)،
وكأنك تقرأ جملاً مفردة او مركبة، لكنك لايمكن اطلاقاً ان تنكر الدلالات الكثيرة الايحائية التي تفضي إليها هاتان القصيدتان، من خلال توليد علاقات كثيرة
بين ثلاثية الرأس والنضوج والقطاف في الاول، وبين ثلاثية الجسدي والفكري والعلاقة,, في الثانية,
وايضا تقرأ القصة القصيرة جدا التالية:
الرجل
اخذت الطائرات تقصف,, وقفت
ابتسامته صلبة على الشفتين,
تطايرت الاشياء,, تمزقت الاجساد,,
ذهبت الطائرات,, وعادت,كان
يتمزق الماً,, وكانت الاجساد
تتمزق,, بقيت ابتسامته صلبة,,
وكان القلب يبكي,
ولاتملك تجاه هذه القصة القصيرة جداً الا ان تستحضر اهوال الحروب الآلية المدمرة التي تجعل الإنسان العادي المبتسم لايملك غير ان يرى المأساة، في ظل تصلب
شرايين ابتسامته، اذ ما الذي يمكن ان يفعله هذا الإنسان الاعزل امام همجية العدو الآلية؟!،
وإلى السياق نفسه تكثيفا وجمالية وتنويراً، يكتب القاص نفسه قصة الفاعل :
اصطف الطلاب,, دخلوا بنظام,,
جلسوا على مقاعدهم بهدوء,, قال
المعلم: درسنا اليوم عن الفاعل,,
من منكم يعرف الفاعل,,؟؟رفع
احد الطلاب اصبعه,,
وقف,, تثاءب,,
قال: الفاعل هو ذلك الذي لم يعد
موجوداً بيننا,, ضحك الطلاب,,
وبكى المعلم,,
،(القصتان من الخيمة قصص قصيرة جدا لطلعت سقيرق)،
وما شعرنا به في القصة الاولى، نشعر به في هذه القصة حيث البكاء على غياب الحميمي في حياتنا، لان البكاء اصبح صياغة واقعية في زمننا، ولايحتمل توليد
شعارات كبيرة,,
والمهم هو ان الاختزال الشديد اصبح جزءاً مهماً من وعي كتابتنا الجديدة التي تهتم بتكثيف الرؤى والدلالات في اقل عدد ممكن من الكلمات، لذلك وجدنا انتشار
القصة القصيرة جداً، وقصيدة النثر القصيرة جداً، والنص المفتوح القصير جداً، والقراءة النقدية القصيرة,, في ثقافتنا الابداعية الاكثر معاصرة,
ومن خلال الدمج بين العادي من جهة، وقصر النص من جهة ثانية، وبين سن الشباب المبدع من جهة ثالثة، نستطيع ان نرى حقيقة الكتابة الابداعية الجديدة في
ثقافتنا في نهايات هذا القرن، هذه الكتابة التي تلغي النبوغ والمواهب الكبيرة، او وهم كتابة النصوص الثقافية الضخمة، ملغية كون الادب هو النص الثقافي
التواصلي بين شرائح المجتمع المختلفة مضطرة، وايضا الغاء هيمنة سيف الادب النقدي التقليدي,, ومع هذه الإلغاءات يبقى حاضراً النص العادي المالوف في لغته
وحجمه ومبدعه ودلالاته، فيتشابه المبدعون بعضهم مع بعض، فلاتعود قادرا على التفريق بين اساليبهم العادية بيسر، ولربما يعتقد بعضنا ان الكتابة الادبية في
هذا السياق امست في ذمة الموت، عندما ينظر اليها وكانها عبارات نثرية مهلهلة سطحية,, من الناحية الشكلية، لا الجوهرية!!،
لكننا نظن ان انتشار الحياة الضخم، وتوسعها الثقافي الانفجاري، وانفتاحها المعرفي، وسرعة الازمنة فيها، وضيق تنفس الإنسان، وشعوره كمثقف بالهامشية والضياع
والاغتراب,,ونشوء المآسي الكبيرة الحربية ، والمرضية، كلها عوامل انتجت ميلا واضحا لدى المبدعين الشباب على وجه الخصوص الى انتاج ابداع النص القصير جدا
شعرا ونثرا في سياقي اللغة المالوفة والكتابة المكثفة، والمغزى العادي الملبس مفارقة لكل ماهو عظيم او رصين في الثقافة الإبداعية الماضية، بقصد الكسر
والاختلاف لتكوين الذات غير النمطية في ارتداداتها التاريخية، دون ان يلغي هذا كونها نمطية في ذاتها ككتابة تحمل هماً ماضخماً!!،


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved