Saturday 18th December, 1999 G No. 9942جريدة الجزيرة السبت 10 ,رمضان 1420 العدد 9942


رمضان ,, في ثوبٍ صُوفي

* رمضان في ذاكرة الطفولة شهر صيفي قائظ.
اذا استحضرت ذكرياته في ذلك العهد البعيد استحضرت حواري المدينة، وأزقتها وساحاتها وبيوتها وهي تصطلي بلفح الشمس في النهار وتلتهب بوقد سمومها ليلا.
* لم تكن هناك محسنات وملطفات كهربائية فلم تظهر في ذلك الوقت مكيفات الفريون,, ولا حتى المكيفات الصحراوية أو المراوح الكهربائية، ولم يكن ثمة إلا الهروب الى الغرف المخبوءة في جوف البيوت الحجرية نهارا أو أسطح المنازل ليلا، ورش السلالم والممرات بالماء الذي كان سرعان ما يتبخر من شدة القيظ، وجفاف الهواء.
* رائحة النعناع الاخضر,, المنعشة,, تمتزج برائحة السحيرات بالسمسم في زنابيل مصنوعة من سعف النخيل,.
تنتشر في أروقة المنازل قبل الغروب,.
فتبرد بها الأعصاب قبل الأطراف والاحشاء.
* كان الناس يستعينون بالشاش المبلل تضرب فيه رياح ساخنة بهيجة تسمح بساعات نوم مبردة في القيلولة.
* وكان منظر زير الماء المبخر عند الظهيرة وجوانبه تقطر بالسائل الطاهر يثير في النفس أعذب الأماني ، وألطف الأحلام.
* كان النهار طويلا,, قائظا.
وكان الليل,, قصيرا,, وساخنا.
وكان ذلك هو رمضان الذي عرفناه,, عندما بدأنا الصيام.
* والذين بدءوا رمضاناتهم في زمن صيفي ملتهب كالصيف المديني لا يستطيعون أن يغالبوا تلك القناعة بأن رمضان الطبيعي يجب ان يأتي صيفا.
ويجب أن يمتزج بالجباه المعتصرة عرقا، والشفاه المحترقة جفافا، والشوق المجنون الى قطرات ماء باردة.
* حل,, بنا رمضان ذات شتاء.
ليل طويل,, صاقع,, ونهار قصير مرتعد.
* لا أعرف, كيف هبط علينا فجأة.
فالمفروض أن تأتي الأمور متدرجة,, وعلى مراحل.
ولكنني لا أذكر في بدايات الثمانينيات الهجرية إلا ذلك الرمضان متلفعا بالملابس الصوفية نهارا، متدثرا البطانيات ليلا.
كأنه قرر فجأة أن يأتي على غير عادته ذات شتاء.
* وتغيرت أحوال وأحوال.
عادات الناس,, وبرامج,, ليلهم,, ونهارهم,, ومأكلهم,, ومشاربهم,, وبالطبع,, ملابسهم.
* أصبحت ساحة باب السلام أكثر هدوءا، ولعل ساحات وحارات أخرى غدت هي أيضا أكثر هدوءا.
* جمد البرد الأرجل الصغيرة، فلم تعد تملأ المكان قفزا وضجيجا,, وشقاوة.
* وكسدت قليلا تجارة بائعي البليلة,, والترمس والفول الطازج وغيرهم من البائعين الجوالين الذين كانوا يرتزقون على ليل الصيف المثير وانتعشت تجارة بائعي الحليب بالشاي والبطاطس المسلوقة المملحة والفلافل، في الساحة الرئيسية المحيطة بالحرم النبوي.
* اختفى الحاج سلامة من موقعه الشهير بجانب أزياره الأكثر شهرة فلم تعد تسمع ضجيج مشاجراته مع أصحاب الدكاكين المجاورة أو مع صبية باب السلام المشاغين.
* واطالت مساحة الوقت بين التراويح والتهجد .
* وامتد زمن التسوق فانتعشت تجارة مستلزمات رمضان,, والعيد.
ونشطت المناسبات والولائم ,, وكل ما يتطلبه ليل قارس البرودة,, من هجوع الى دفء المنازل حيث مواقد الجمر، أو الدفايات الكهربائية, وقد بدأ العهد الكهربائي حينذاك على نطاق واسع .
* صلاة التهجد كانت تقام في الجزء القديم من الحرم.
لم يك عدد المصلين يزيد عن صفوف معدودة فيما عدا ليلتي الختم والسابع والعشرين من رمضان.
* كانت تمتزج في المكان الظاهر,, بين المنبر والبيت رائحة البخور بدوي التلاوة,, فتبعث دفئا في الأجساد والأرواح.
* وكان ذلك هو ملجؤنا الدافىء,, الأمين,, بعد أن نتبرم بليل الشتاء الطويل وروتين التسكع الممل، ولذعة البرد القارس لندرك ركعتين أو أكثر مع جموع المتهجدين الصابرين على الصلاة الطويلة,.
ونختم معهم بدعاء الوتر لعل الله يشملنا معهم برحمته.
ثم ننصرف مع الجمع الى بيوتنا للسحور، وقد شابنا بعض اطمئنان أن قد مزجنا في ليلتنا,, بين عمل حسن وآخر أقل حسنا، مستعدين للاجابة على الاسئلة المقررة حول مائدة السحور:
هل صليتم القيام،
وماذا قرأ الإمام الفلاني؟
ومن الذي أمّ الوتر تلك الليلة؟
* سحور رمضان الشتوي ,, له,, دائما,, في الذاكرة مشهد,, مثير.
الأطفال دائما,, وأبدا,, هم نمرة الحفل الأولى.
السرير الدافىء الناعس يناديهم والسحور مجمع الكبار، والمدركين البالغين، ويمتحن إرادتهم وتطلعاتهم الى اثبات النفس.
* إنها ذات قضية الصراع القديمة الجديدة بين اللذة والارادة، والواجب والمتعة, ولذلك كانوا يثيرون الضحك والحزن معا,.
ولكنهم,, بحق,, كانوا مصدر متعة متجددة على مائدة السحور خاصة عندما كان يحلو للاخوة الكبار أن يستغلوا لحظات ضعفهم تلك لالنقرزة عليهم,, واللعب على حوافهم الرقيقة.
* وإني لأنظر الآن الى الصغيرين عمر وفاطمة وهما يجرّان أنفسهما الى مائدة السحور جرا.
متلفعين بملابسهما,, مرتدين ذات التكشيرة الناعسة فأتعجب كيف تتكرر نفس النمرة من ذات المسرحية,, جيلا,, بعد جيل.
أنور عبدالمجيد الجبرتي

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

المتابعة

منوعـات

لقاء

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved