Saturday 29th June,200210866العددالسبت 18 ,ربيع الثاني 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

إشكالية المصطلح والخطاب المعماري العربي المعاصر إشكالية المصطلح والخطاب المعماري العربي المعاصر
د. وليد احمد السيد

تتردد في الخطاب العربي الثقافي بشكل عام، والمعماري بشكل خاص فكرة ازمة هوية وتغريب تعاني منها الثقافة عموما والعمارة العربية خصوصا. ويتردد مفهوم التراث في هذا الاطار بين الحين والآخر ضمن الخط الملتزم والمدافع في خضم هذه الطروحات الفكرية المتعددة. ولعلنا في هذه العجالة الفكرية نلقي بعض الضوء على هذا المصطلح، فما هو (التراث)؟
ينزع بعض الكتاب والمفكرين الى الاعتقاد بأن مصطلح (تراث) حديث من حيث استخدامه ككلمة متداولة في اللغة بهذه الصيغة، اذ تكاد معاجم اللغة تخلو من تعريفه بهذه اللفظة المحددة، مما يضعها ضمن اطار ايديولوجي اصطلاحي. ويلتمس اللغويون تفسيرا لحرف التاء في كلمة تراث فيقولون ان اصله واو، وعلى هذا يكون اللفظ في اصله الصرفي (وراث) ثم قلبت الواو الى تاء لثقل الضمة على الواو كما جرى النحاة على القول. يقول ابن منظور صاحب لسان العرب تحت مادة التراث: ما يخلفه الرجل لورثته، والتاء فيه بدل الواو. وفي القاموس المحيط للفيروزابادي، ورد تحت مادة (الارث) الميراث والاصل والامر القديم توارثه الآخر عن الاول. اما الباحثون والمفكرون المعاصرون فيعرفون التراث تعريفات شتى، فمن قائل بان التراث هو ما خلفه السلف للخلف من ماديات ومعنويات ايا كان نوعها، بينما يعرفه محمد اركون بانه يعني كل العادات والتقاليد السابقة للاسلام والتي استمرت بشكل او بآخر بعد الاسلام.فيما ينحو بعض الباحثين والمفكرين الى تعريفات ذات سمة فلسفية تخفي ضمن طياتها مضامين اعمق وذات دلالات حول القوانين الداخلية لمفهوم التراث والتي يكمن استنباطها، فالجابري يقدم تعريفه على النحو التالي اذ يقول:اذا كان الميراث او الارث هو عنوان اختفاء الابن وحلول الاب محله، فان التراث هو عنوان حضور الاب في الابن، حضور السلف في الخلف، حضور الماضي في الحاضر. اما العروي فيعرفه على انه: كل ما هو موروث في مجتمع معين عن الاجيال الغابرة، العادات الاخلاق، الاداب، التعابير، التنظيمات، بيد انه لا يحصره فيما هو مكتوب او مروي.
هذه التعريفات تربط التراث بالماضي، كما انها تاخذ طابعا مطاطيا اذ تسمح بدخول كل ما كان من الماضي الى الحاضر. مما يطرح التساؤل حول اهمية التفريق بين الماضي كتاريخ وبين التراث اذ تبرز اهمية التمييز بين التراث وبين (الماضي) وذلك لتحديد معايير عبور الماضي وانتقاله الى الحاضر لتقنين امكانية انتقال السلبيات على انها التراث، اذ لا يعني انها كانت جزءا من ذاكرة الامة اننا ينبغي ان ننتمي اليها.ومن هنا فان نشاة التراث تبرز اهميتها لادراك لحظة الميلاد هذه وما واكبها من عوامل ، ونعني هنا دوافع نشأة هذا التراث. اذ انه اذا كان لنا ان ندرك التراث على انه نتاج للتوازن بين عوامل داخلية (ونعني هنا عوامل افراز التراث ضمن اطار الثقافة الواحدة) مختلفة اجتماعية وسياسية وثقافية، وبين عوامل خارجية يمثلها التهديد الخارجي من الثقافات الاخرى وتداخلاتها. بمعنى آخر ان التراث قد يكون افرازا (كفعل) -بسبب من العوامل الداخلية- او (كرد فعل) - كنتاج للعوامل الخارجية-، فان عدم التوازن بين هذه العوامل (كمنظومة) يؤدي الى خلل في مفهوم الاصالة والمعاصرة والتراث وتجديده، ويؤدي الى (فجوة) ناجمة عن الخلل في التوازن ويؤدي الي ما يعرف بإشكالية الاصالة والمعاصرة .
وموضوع التراث موضوع له اهمية مركزية في معرض تناول مسالة االتجديد.اذ يطرح التساؤل باية صورة ينبغي ان نفهم التراث قبل تبنيه؟ وكيف لنا ان نعود للماضي؟ اذ ان هناك نوعين من العودة التراثية كما يراها الجابري، اولاها هي العودة للارتكاز وتتم من اجل النهوض والتجديد، والثانية عودة الاحتماء وتتم بسبب من التهديد الخارجي. واذن ففهمنا للتراث ينبغي ان يقودنا الى قراءة واعية له، ويمكن التمييز هنا بين ثلاثة انواع من القراءة، اولاها القراءة العصرية للتراث، والثانية قراءة تراثية للتراث، والثالثة القراء ة التراثية للعصر. والمتمعن المتفحص للقراءات الثلاث لا يخطىء ما يكمن من خطر في نوعي القراءة الثانية والثالثة، اذ كما يضعها محمد عابد الجابري: ان الهدف الكامن وراء اية قراء ة تقدم نفسها على انها -قراء ة عصرية للتراث- هو تجنب الوقوع تحت سلطة التراث، سلطته التي تجرنا ليس فقط الى قراء ة تراثية للتراث، اي الى فهم تراثي للتراث، بل ايضا - وهو الاخطر- الى (قراءة تراثية للعصر)، اي تمديد الماضي لجعله ينوب عن الحاضر والمستقبل. ومن هنا فان قراءة التراث ينبغي ان تنطلق من فهم واع لمتطلبات العصر وضروراته من اجل النهوض بما يناسب الواقع من التراث، وهي المزلق الذي يعاني منه معظم النظريين والتطبيقيين في العصر الحديث لدى الرجوع الى الماضي سواء أكان تاريخا ام تراثا. فما هي خصائص التراث او المعايير العامة التي يمكن بها ان نطلق عليه هذه اللفظة وان يكون ما يعنينا في حاضرنا كفاعل ايجابي؟
يبدو ان اول خصائص التراث الاولية البسيطة انه حاضر فينا من الماضي، بمعنى انه ليكون تراثا بمسماه ينبغي ان يتواصل عبر الزمن ليصل الينا والا فلا يصح اطلاق لفظ تراث عليه. وبكلمات اخرى ان هذا التراث اذا انقطع وانتهى عند حدود الحاضر فانه لا يمكن ان يشكل تراثا لنا، انما يصبح جزءا من ماضينا ولكن لا كتراث حاضر فاعل بل كجزء من ذاكرة حضارتنا.و التراث كناتج هو احد افرازات الثقافة والحضارة الواحدة، وهو وليد ظروف وعوامل داخلية ضمن اطار الثقافة او خارجية شكلت تداخلا او خطرا داهما هدد هذه الحضارة مما ادى الى بزوغ بعض التراث كرد فعل. وايا كانت ظروف هذه النشاة الا اننا يمكن ان نقول ان فكرة التراث تتضمن احتواء هذا (الوليد) كنتاج على (قيم) يغلب ان تكون عامة، بمعنى ان هذا المولود الجديد يعبر الى درجة ما عن طبيعة (البيئة) او والديه اذا جازت لنا هذه الاستعارة، ويحمل في جيناته قيم (الحضارة) التي افرزته. وبما ان هذه القيم تصلح ان تشترك بها اكثر من ثقافة او حضارة لما لها من صفة العمومية (كقيمة الصدق في التعبير، فقيمة الصدق قيمة عالمية، ولا يمكن بحال ان تجمع امة ما او حضارة ما على ان الكذب فاضل على الصدق) فبذا يمكن ان تكون بعض او معظم خصائص التراث عامة، وبذا يمكن ان تشترك اكثر من ثقافة في تراث ما ببعض خصائصه. فهل يعني ذلك ان هناك من التراث ما يمكن ان تشترك به اكثر من امة؟ وبكلمات اخرى هل هناك تراث عالمي وآخر اقليمي خاص بكل ثقافة؟ الاجابة البسيطة المباشرة ايجابية. اذ ان هناك من التراث البشري ما تشترك به الحضارات جميعا على انه نتاج بشري لا قومي ذو صفة (محلية) في اطاره العام. مثال ذلك صناعة الخبز، او ضرب الطوب،او فن التأليف او الكتابة، الخ، هي (تراث بشري ) بمعناها الواسع، انما الخبز الناتج هو فرنسي (لا كهوية انما كطريقة صناعة خاصة)، او شرق اوسطي، الخ، والادب الناتج عن صرير القلم على القرطاس لا يمكن بحال إلا ان ينسب (بخصوصية عالية) لظروف مولده ومكانه وزمانه، بل ويخضع لظروف وخلفية كاتبه ودوافع هذه النشأة وقد يشكل لحظة ابداع لازمنية لا يمكن تجاوزها، وكذا آلية ضرب الطوب والمواد المحلية المستعملة هي تراث خاص (اقليمي) ضمن اطار الثقافة والحضارة التي افرزته. ومن هنا نميز بين الاطار العام (للتراث) كنتاج بشري، والاطار الخاص كإبداع محلي يخضع لعوامل البيئة المحلية ولكن يبقي التعبير عن هذا التراث هو ذو خصوصية للثقافة التي افرزته، اي انه ينتمي لتلك الثقافة بطابعه،لكن الخصائص والقيم التي تكمن في اساسه والتي توصف بأنها عامة وتنتمي للثقافة الانسانية بعموميتها يمكن ان تنفي خصوصيته لتلك الثقافة وحدها. وفي هذا بعض الاجابة على التساؤل في الفقرة السابقة، اذ يمكن ان يكون ما خلفه الآخر من ماضينا وفي ذاكرة حضارتنا (تراث) لنا بأحد اطاريه العام او الخاص، بيد ان تحديد هذا الاطار يدخل ضمن اطار مسألة الهوية وهي موضوع آخر .
والتساؤل : ما هو الفرق بين التراث وبين التاريخ ؟ في معرض المراجعة الادبية لاطروحات المفكرين والكتاب والباحثين نجد بعضا من الخلط في استعمال هذين المفهومين للدلالة علي نفس المضمون. ولذا نجد طيب تيزيني يقدم التعريف التالي للتمييز بين المفهومين على النحو التالي:« اذا كان التاريخ هو الماضي في بعده التطوري، فان التراث هو الماضي في بعده التطوري موصولا بالحاضر ومتداخلا فيه» كما يضيف مفرقا بين التاريخ وبين التراث:« ان لحظة التطور التي يجسدها الحدث التاريخي والتي تمنحه هي شخصيته بما هو بعد تاريخي تتوقف مع نشوء اللحظة الحاضرة، وتوقفها هذا توقف نسبي منحدر من توقف الماضي (التاريخ) عند حدود الحاضر، واذن فان التاريخ هو الماضي في بعده التطوري». واذا كان التاريخ هو الماضي في بعده التطوري، فان التراث هو«الماضي في بعده التطوري موصولا بالحاضر ومتداخلا فيه». ثم اذا كان الماضي (التاريخي) مستمرا حتي حدود الحاضر ولا مستمرا فيه بعد ذلك، فان التراث يجسد الاستمرارية من الماضي الى الحاضر. اي ان هذين مجتمعين في بعديهما التطوري يؤلفان التراث. وبذا فان العلاقة الفاصلة بين الاستمرارية واللا استمرارية تؤلف التراث او التاريخ.بيد ان هذه الاستمرارية للتراث ينبغي ان تكون من النوع الحاضر حضورا فاعلا وايجابيا. اذ ان التاريخ بتعريفه كما يعرفه قسطنطين زريق على انه :«الماضي الذي يحتفظ بمعلومات وافرة عن المراحل التي مرت بها امة من الامم والاحداث التي جابهتها، والمشكلات التي عانتها والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي رافقت ذلك كله» يحتمل بهذا التعريف ان يكون ماضي عبء يثقل كاهل الامة، او ان يكون ماضي حافز ينير لها طريق المستقبل. ومن هنا فان التراث المستمر ينبغي ان يكون حافزا فاعلا وان تكون استمراريته خاصة زمنية وعامة ضمنية، والا كان تراثا منقطعا، او بكلمات ادق (تاريخا). من هنا تتبين ابرز خاصية للتمييز بين المفهومين، مما ينعكس بالتالي على فهمنا للماضي وتحديد ما يصلح لان يدخل حاضرنا وما لا يصلح، اذ أن ذاكرة الامة من الماضي تحوي ما يمكن ان يكون تاريخ غيرها فيها خلال فترات تداخل ثقافي او استشراق او استعمار مما يشكل خطرا داهما ان لم يتمكن مفكروها وكتابها من التمييز والتمحيص قبل الاعتراف بما هو دخيل عليها. هذه المقدمة العامة للتمييز بين التراث وبين التاريخ تلقي بظلالها على العمارة العربية المعاصرة على المستويين النظري والتطبيقي.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved