Saturday 5th October,200210964العددالسبت 28 ,رجب 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

مادة تاريخ العمارة والتدريس في الأكاديمية الحديثة.. نظرة تحليلية مادة تاريخ العمارة والتدريس في الأكاديمية الحديثة.. نظرة تحليلية
وليد أحمد السيد *

تمثل دراسة التاريخ البشري عموما والتاريخ المتخصص بشتى انواعه بشكل خاص حلقة مهمة ليس فقط في ادراك العلاقات المختلفة في السلسلة التي يمثلها الماضي والحاضر والمستقبل، بل تتعدى هذه الاهمية هذا التصور لكونها -اي دراسة التاريخ- ان تمت في اطار التكامل ما بين النتائج ومسبباتها فإنها تؤدي الى توضيح معالم فترة ما بالاضافة الى تبيين الاسس والمسببات التي جعلت تلك الفترة تبدو على ما نراها اليوم، بمعنى ان دراسة التاريخ يمكن ان تتم على مستويين احدهما ذو افضلية على الآخر: الاول وهي دراسة وصفية تتلمس استقراء نتائج دون الخوض في مضامين اعمق لمعرفة الكيفية التي تمت بها افراز النواتج. اما الاخرى فعلى النقيض من الاولى هي دراسة عميقة تبحث في العوامل المسببة مع امكانية البحث ايضا في (الهوامش) حيث تم اسقاط اعتبارات دون اخرى وتحليل آلية الانتقاء. المستوى الثاني بلا شك يؤدي الى معرفة وادراك اوسع مع امكانية تكوين نموذجين: الاول هو الماضي كما كان، والثاني هو مجموعة نماذج افتراضية للماضي، كما يمكن ان يكون هذا النموذج او النماذج (الافتراضية) فائدتها انها تمثل حقل تجارب للحاضر استنادا الى واقع ملموس (هو الماضي في هذه الحالة)، بمعنى ان هذه النماذج الافتراضية الوليدة هي نماذج لما كان حاضرا في يوم من الايام، وبالتالي يمكن القياس على الواقع اليوم للوصول الى نماذج متعددة حديثة تسهم في تصميم الواقع الذي نعيش. وبكلمات اخرى يمكن ان تمثل دراسة التاريخ مقدمة لتصميم الحاضر بتغيير بعض العوامل او الظروف المعاصرة باستقراء الدروس المستفادة من الماضي.
وبعيدا عن هذه الفلسفة العامة والحديث على مستوى العموميات التي قد تضجر منها القارىء الكريم، دعونا نسلط الضوء على حالة التاريخ في العمارة ونركز الضوء اكثر فأكثر على الآلية التي يتم بها بحث وتناول مادة تاريخ العمارة كمنهج تدريسي للطلبة. ويهمنا في هذا المقال ان نتناول مجموعة من النقاط بالترتيب التالي: اولا تاريخ العمارة كعلم منهجي وكموضوع، النقطة الثانية : مركزية او لامركزية دراسة تاريخ العمارة في الوعي العربي الاسلامي والثالثة: (لاتاريخية) دراسة وتدريس التاريخ المعماري في الاكاديمية الحديثة، ونظرا لان دراسة التاريخ او الحديث عنه بشكل عام قد تبدو مملة وجافة فسنعمد لاستقطاب انتباه القارىء بين الفينة والاخرى كيلا يستسلم للنعاس والله الموفق، ونبدأ بالنقطة الاولى المتعلقة بمنهجية تاريخ العمارة كموضوع علمي.
قد لا تتعدى منهجية البحث في تاريخ العمارة القديمة او الحديثة في اغلب الاحيان مجرد عرض سردي ووصفي لابرز الطرز والانماط والسلالات التي سادت في حقبة زمنية معينة، مع مسرد كرونولوجي بابرز المآثر والمخلفات التي تميزت بها تلك الفترة عن غيرها، بدرجة ان الربط الذهني بين الفترة الزمنية التي تدرس بها تاريخ العمارة وبين المكان يتم مباشرة بمجموعة من الانماط والطرز او بمبنى متميز الخ، فعلى سبيل المثال، عندما تذكر العمارة المصرية القديمة يتردد في الاذهان مباشرة الاهرامات او المسلات او غيرها، او عندما تذكر مدينة روما من ناحية معمارية يقفز الكولوسيوم للذهن، او حينما نتكلم عن آثار مدينة تونس نتذكر جامع القيروان، او حين تذكر الاندلس تتدافع الذكريات المجيدة وتتقافز مجموعة من المباني للاذها ن كقصر الحمراء وجامع غرناطة ومئذنة الجيرالدا، او حينما تذكر مدينة القدس تمتزج مشاعر المجد والاباء والفخر بقبة الصخرة وغيرها. يبدو ذلك منطقيا وشرعيا وقد لا يبدو ان هناك ما يدعو للغرابة، فأين هي المشكلة يا دكتورنا العزيز؟ قد يتساءل بعض القراء الاكارم، في الحقيقة ليس هناك من بأس في هذه القابلية الذهنية للربط بين الحدث الزماني والمكان، بل على العكس هي ايجابية في توطيد العلاقة بين احداث وفرارات زمنية تمت على بقعة مكانية لتمتد عبر التاريخ في تأثيرها، ونركز هنا على كلمة تأثيرها، واليك الايضاح اخي القارىء الكريم.
فانك حين تذكرك لقبة الصخرة مثلا نلاحظ ان الرمز والصورة لم ترتسم بمخيلتك مجردة بل صاحبتها بعض الاحاسيس اللاشعورية، فحين تتذكر قبة الصخرة تتذكر الاقصى والبقعة الجغرافية وربما يدور في خلدك وأن لم تشعر بعض المعاني والمشاعر الوطنية او العاطفية، وحين تتذكر العمارة المصرية القديمة قد يصاحب ذلك مشاعر الغموض او الرهبة او غيرها. ومن هنا يبرز تساؤلنا التالي: هل يتم جلب مادة تاريخ العمارة (العربية الاسلامية) بما يصاحبها من عوامل ومؤثرات ومتغيرات ودوافع، ام انها تدرس للطلبة كناتج صوري وكرموز جامدة صلداء خالية من مضامينها؟ بكلمات اخرى هل يتم الربط بين شكل المئذنة على سبيل المثال وبين الآلية التي انتجت وأفرزت هذا المعلم في التاريخ الاسلامي؟ وهل يتم ايضاح وتتبع عوامل نشأة الفناء واهميته ونمطيته ام هل ينظر له كناتج صوري لا يختلف بين البيت وبين المدرسة او المسجد او البيمارستان؟ هل يتعرف الباحث او الطالب على البدائل المختلفة للانماط والمفردات التي نرثها، وبكلمات ادق هل هناك ربط وتحليل ام هل تشحن لاذهانهم كرزم معلبة وجاهزة؟ في الحقيقة وفي اطار موضوع تناول تاريخ العمارة كمنهجية ربما من المفيد ملاحظة ان هذه المادة بالذات ينبغي ان تدرس ضمن حلقات نقاش ومداخلات لا كتلقين، اذ انها لا تختلف ادنى اختلاف عن نظرية العمارة، بل ان نظريات العمارة مشتقة من التاريخ نفسه!! فما بال الباحثين في دراسة او تدريس تاريخ العمارة اذ يعمد احدهم لتقنين وتعليب التاريخ ضمن اطر وطرز معمارية جامدة لا تؤدي رسالة سوى التقوقع عند حدود التاريخ؟ وما بال احدهم لا يسلط الضوء على الرسالة التي ينبغي تعلمها من كل حلقة درس للتاريخ المعماري؟؟
في الحقيقة وبمعرض الاجابة عن بعض هذه التساؤلات الاستفهامية ان جازت الاجابة، يبدو ان الخلل يكمن في مركزية(علم التاريخ نفسه) في الوعي الغربي و(لامركزيته) في الوعي العربي الاسلامي. وآية ذلك ان جميع الموسوعات العالمية للتاريخ المعماري والمراجع والمؤلفات قد صيغت من منظار الباحثين الغربيين انفسهم، وقدمت (معلبة) وجاهزة للاستاذ قبل التلميذ، ومن هنا فلو تمت اعادة النظر في التاريخ المعماري للعمارة العربية الاسلامية بالصورة التي قدمها لنا الرحالة والمستشرقون الغربيون -مع اعتبار امانتهم في وصف وتوثيق ما نقلوه في اسفارهم- ولو تم تخطي هذه المؤلفات لوجد العالم العربي نفسه يعيش على هامش تاريخه المعماري نفسه!! وليس ذلك الا لأن التاريخ المعماري قد قدم لنا بصورة مجردة لا تصف ابعد من الجدران والواجهات والمخططات الافقية وهو ما عكسه الوعي الغربي من دراسة عمارتنا، وليس ذلك بمعرض اللوم، اذ ان ذلك ليس اختصاصه او لا يعنيه، فتاريخنا المعماري والمتضمن تاريخنا الحضاري هو من اختصاصنا نحن فقط. ولا يمكن ان نلوم غيرنا اذ قدم لنا خدمة بتوثيق عمارتنا وان كان ذلك (صوريا)، انما نلوم انفسنا لتقوقعنا عند حدود هذه (الصورية).
ومن هنا نصل الى النقطة الثالثة وهي ان ادراكنا لعمارتنا هو ادراك (لاتاريخي) بمعنى انه حبيس الاطار الزمني الذي كتبت به هذه المؤلفات من ناحية، وحبيس القوالب الصورية الجامدة التي ندرك بها هذا التاريخ المعماري بمعزل عن العوامل والآمال والآلام لدى افرازه من ناحية ثانية. ليس ذلك فحسب بل انه حبيس جمودنا في احراز نقلة نوعية بقراءة هذا التاريخ المعماري بمنظور اليوم لا بمنظور التاريخ الذي صدرت به طبعات المؤلفات الاجنبية التي لا تتجدد مع مرور الايام. ولذلك ترى ان البعض ممن يدرس تاريخ العمارة قد تقوقع هو ايضا عند مجموعة من ادوات العرض لمادته واصبحت مادة تاريخ العمارة روتينا مملا ترعب الطلبة حين ذكرها لخلوها من الجدة والشحذ العقلي، بل هي حصة غالبا ما يصاحبها عرض للشرائح واطفاء الانوار وبذلك تحلو الفرصة لغفوة سريعة استعدادا لمادة اخرى تتطلب نشاطا ذهنيا أكبر من مجرد الاستماع والتلقين، وبدلا من ان تكون حلقة نقاش مفتوح بعد تعيين مادة للقراءة والتحضير المسبق لهذه الحلقة - التي يتعلم منها الاستاذ نفسه بعضا من الخواطر التي تتمخض عنها عقليات بعض طلبته النيرة مما يفتح المجال لأبحاث ودراسات- تتحول هذه المادة الى بوتقة خمول وتثاؤب واستسلام للنوم الزاحف ببطء.
تلك كانت بعض الخواطر السريعة املا في ان تدق عقولا نيرة، وان كانت من اطالة او املال فنقدم هذه الخطرات متعثرة بثوب الخجل والحياء مع دعوة لتناول فنجان من القهوة لمن داهمه النعاس.

* دكتوراه نظرية العمارة - جامعة لندن

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved