Saturday 26th October,200210985العددالسبت 20 ,شعبان 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

العمارة في التعبير القرآني الكريم العمارة في التعبير القرآني الكريم
المدينة والقرية - نظر ة حضرية اجتماعية
د. وليد أحمد السيد
معماري/جامعة لندن

من الملاحظ ان العمارة قد ورد ذكرها في القرآن الكريم بدلالات واشارات بعضها صريح مباشر وبعضها الآخر ضمني، ففي الاطار الاول وضمن العمارة الدينية ورد ذكر المسجد الحرام في مواضع متعددة منها في سورة الاسراء {سٍبحان الذٌي أسرى" بٌعبدٌهٌ ليلاْ مٌن المسجٌدٌ الحرامٌ إلى المسجٌدٌ الأقصا الذٌي باركنا حولهٍ }، وورد ذكر العمارة السكنية في مواضع عديدة منها ما يخص الانسان ومنها ما يخص المخلوقات الاخرى، ففي سورة النحل قوله تعالى {واللهٍ جعل لكٍم مٌن بٍيٍوتٌكٍم سكنْا } ، وفي سورةالنمل { قالت نملةِ يا أيٍها النملٍ ادخٍلٍوا مساكٌنكٍم } - النمل، بالاضافة الى ذكرالمسجد والصوامع والجنة والسد في قصة ذي القرنين، او السلم او الصرح (قيل ادخلي الصرح) - النمل، في قصة بلقيس ملكة سبأ، او البروج او المدخل {إن المٍتقٌين فٌي جناتُ ونهرُ فٌي مقعدٌ صٌدقُ عٌند ملٌيكُ مٍقتدٌرُ}- القمر، او السرادق او الغرفات { فٌي الغٍرٍفاتٌ آمٌنٍون} - سبأ، او {لنٍبوٌئنهٍم مٌن الجنةٌ غٍرفْا } - العنكبوت، او قصة ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، اوالاشارة الى عظم مدنية ثمود وعاد التي لم يخلق مثلها في البلاد مما يدل على علو شأو مدنيتهم وعمارتهم، ولكن ما يلاحظ هو دقة الفاظ القرآن الكريم في التمييز بين كلمتي (مدينة) وبين كلمة (قرية)، اذ تمت الاشارة الى لفظة (قرية) مثل قوله تعالى {وقالٍوا لولا نٍزٌل هذا القٍرآنٍ على" رجٍلُ مٌن القريتينٌ عظٌيمُ } - الزخرف، او في قصة موسى و الخضرعليهما السلام {فانطلقا حتى" إذا أتيا أهل قريةُ استطعما أهلها فأبوا أن يٍضيٌفٍوهٍما} الكهف، وفي آية لاحقة من سورة الكهف {وأما الجٌدارٍ فكان لٌغٍلامينٌ يتٌيمينٌ فٌي المدٌينةٌ} ، او قوله تعالى {قالٍوا أرجٌه وأخاهٍ وأرسٌل فٌي المدائٌنٌ حاشٌرٌين يأتٍوك بٌكٍلٌ ساحٌرُ علٌيمُ} - الاعراف، او لفظة ام القرى بالاشارة الى مكة المكرمة في قوله تعالى {وهذا كٌتابِ أنزلناهٍ مٍباركِ مٍصدٌقٍ الذٌي بين يديهٌ ولٌتٍنذٌر أٍم القٍرى" ومن حولها} الانعام، جميع هذه الاشارات واستعمال الالفاظ المتعددة بين قرية ومدينة لها مدلولات ومعان دقيقة، فما هي الحكاية؟ وما هو الفرق بين اللفظتين، وماذا يعني ذلك من ناحية حضرية تخطيطية عدا عن الجوانب الاجتماعية؟
بداية من المهم الاشارة الى ان لفظة قرية الواردة في القرآن الكريم لا تعني البتة مفهوم القرية الريفي الذي نعرفه اليوم، بل ان التفاسير والمعاني تدل على المدنية ووجود المجتمع الذي يشكل المدينة بحسب تعريفاتها في التخطيط الحضري اليوم من حيث وجود كيان اجتماعي واقتصادي تجاري وهيكل نظام حكم سياسي الى غيره مما يقيم اود المجتمع المتحضر، وهذه مما وردت في اكثر من موضع تاريخيا اذ توفرت هذه العناصر جميعا، والتساؤل يتردد اذن: لماذا فرق اللفظ القرآني بين اللفظتين؟لعل من ابرز التعاريف والتفاسير التي تجلب الانتباه وبخاصة ما ورد في سورةالكهف في استعمال اللفظتين، هو التفريق بين الطبيعة المجتمعية لسكان القرية والمدينة، فعلى الرغم من اللفظتين اطلقتا على نفس المكان في قصة موسى والخضر عليهما السلام، في قوله في الآية الاولى {فانطلقا حتى" إذا أتيا أهل قريةُ \ستطعما أهلها فأبوا أن يٍضيٌفٍوهٍما } الكهف، اطلقت لفظة المدينة على نفس المكان في تفسير الخضر لاعماله مع موسى عليهما السلام، والتفسير لذلك انهما حينما قدما على المكان توسما الخير في اهل البلدة (القرية) فطلبوا الطعام فلم يطعموهما ولذلك حينما اورد الخضر لموسى عليهما السلام ما جرى في المكان باقامته الجدار في القرية التي ابى اهلها ان يطعموهما فيها، فسر له الخضر ان الجدار كان لغلامين يتيمين في (المدينة) ولم يستعمل التعبير القرآني لفظة (قرية) في المرة الثانية، وفي هذا دلالة على طبائع وخصائص المجتمع في المكانين، اما في القرية فيبدو ان الطباع والعادات والتقاليد الاصيلة هي التي تسود بخلاف ما يترتب على تغيير هذه العادات والطباع الاصيلة في المدينة التي ينحو اهلها ناحية الانعزالية والانانية تجاه الغرباء من ناحية ، وتجاه جيرانهم من ناحية ثانية، فبالمقارنة بين المجتمعين - مجتمع القرية الريفي ومجتمع المدينة الحضري بالمفهوم الذي نعرفه اليوم - يسهل تبين مجموعة من الخصائص المتباينة التي يبدو انها انعكاس لطبيعة المكان الحضري والبنية التركيبية للبيئات المختلفةمن اجتماعية واقتصادية ودينية وغيرها، فمثلا يعرف اهل القرية بعضهم بعضا وفي الغالب تسود العلاقات الاجتماعية الوطيدة والحميمة، فيما تفتقد هذه العلاقات في مجتمع المدينة وتضمحل رويدا رويدا مع كبر حجم المدينة ليس فقط بين الجيران وانما بين الارحام والاقارب في بعض الاحيان، وفيما تسود عادات الطيبة والكرم مجتمع القرية الريفي وتعد من الشهامة والعادات المحبذة مثل اطعام الضيف ومساعدة الغرباء وعابري السبيل، تجد ان هذه المفاهيم قد اعيدت تركيبتها في مجتمع المدينة بطريقة مختلفة تماما، فالتعامل مع الغرباء محدود ومكروه في بعض المجتمعات وبخاصة في المجتعات الغربية الحديثة، بل ان المدينة قد تسببت في خلق عادات انانية فرضتها طبيعة الحياة المعقدة في المدينة وبرزت فكرة (لا يخصني) بحيث ان احدهم اذا سقط في الشارع العام وبحاجة للمساعدة قد لا يجد الكثير ممن يستوقفه هذا المشهد ويهب للمساعدة، بخلاف مجتمع القرية الذي لا يستوقفه هذاالمشهد طويلا بل يجد المحتاج من الغرباء يد العون رغم شح الموارد وقلة ذات اليد في بعض الاحايين، واذكر انني اثناء سفرة لزيارة الاهرامات بمصر قبل سنوات واثناء التجول بالموقع حيث السياح والزائرين ممن يركب بعضهم الخيل والجمال للتجول بالمكان، سقط احدهم عن ظهر الحصان الذي جنح وولى بعيدا بعد ان اسقط حمله، ولسوء حظ الرجل المسكين فقد سقط على ارض صخرية واغشي عليه والدماء تسيل من رأسه، واذ سارعت اليه تناهى الى سمعي جملة احد الاصدقاء الذين معي : (لا يخصنا، لنبتعد عن هنا).
وفي الحقيقة تبدو هذه الجملة هي عنوان الحياة الاجتماعية في المدينة، وقد يجد لها البعض تبريرا من حيث تجنب الدخول في المتاعب او ربما لطبيعة الحياة المصلحية التي فرضتها المدينة وتبعاتها، فبمقارنة البساطة في مجتمع القرية من ناحية المتطلبات المادية، تجد ان سكان المدينة يركضون في كل الاتجاهات سعيا وراء لقمة العيش لتلبية الاحتياجات المادية المتزايدة، والتساؤل هو: هل ينبغي للمدينة بالضرورة ان تفرض مثل هذا النمط الاناني والجشع على ساكنيها ام ان الساكنين هم الذين فرضوا طبيعتهم في المدينة؟ وبكلمات اخرى، هل تبعات متطلبات العيش في المدينة هي التي تولد الخصائص السلبية في المجتمع كالانانية والتقوقع ام انها نتاج الجشع والسعي المتزايد نحو المزيد؟ نترك الاجابة والتفكير مليا بهذا التساؤل للقارئ الكريم ، انما يبدو ان المكان كطبيعة حضرية او كتكوين عضوي حضري هو متجانس نسبيا، انما يكمن الاختلاف في التركيبات الاجتماعية والتدرج الهرمي التكويني بين المجتمعين، ويبدو ان الالفاظ القرآنية قد حسمت القضية، فبالنظر الى التعبيرات القرآنية المختلفة، يتبين انه حيثما وردت لفظة (قرية) تجد الخير او النزعة نحو الخير، ولذلك وصفت مكة في القرآن الكريم بأم القرى، اما المتأمل في لفظة (مدينة) في القرآن الكريم فيجد انها تدل على تغير الطبيعة المجتمعية وظهور الصفات المتحورة التي غالبا ما تنزع نحوالدنيا وتبتعد عن الخيرية، فمثلا لم يستعمل التعبير القرآني لفظة القرى في قصة سحرة موسى انما كان التعبير المستعمل هو (المدائن) جمع مدينة ، {وأرسٌل فٌي المدائٌنٌ حاشٌرٌين يأتٍوك بٌكٍلٌ ساحٌرُ علٌيمُ}، كذلك تدل الالفاظ على نوعية المهن التي تتطلبها طبيعة العيش في المدينة والتي تخلو منها القرية، وفي المجتمعات الحديثة وبالذات المجتمعات الحضرية الحديثة تعاني المدينة من ظهور الحرف التي لم تعهدها البشرية في تاريخها الطويل، اذ تظهر الحرف التي تعتمد النصب للحصول على لقمة العيش دون بذل ادنى مجهود، وتعلو نسب الجريمة والسرقة والسطو، وهي من آفات البيئة الحضرية الحديثة، ونطرح التساؤل للقارئ الكريم مجددا، أهي المدينة ام سكانها؟

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved