Saturday 16th November,200211006العددالسبت 11 ,رمضان 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

مصادر الحياة الاجتماعية والبيئة العمرانية في الأدب والتاريخ مصادر الحياة الاجتماعية والبيئة العمرانية في الأدب والتاريخ
د. وليد احمد السيد
معماري/جامعة لندن

لم تخل الرسومات التي نجدها بين ايدينا من موروثات الرحالة والفنانين الذين تجولوا في الشرق وبالذات في بلاد شمال افريقيا وبعض من دول بلاد الشام من وصف الآثار المعمارية التي شاهدوها. بحيث عدت هذه الرسومات - قبل اختراع الكاميرا - بمثابة الصور التي يلتقطها مرتادو هذه الآثار اليوم. وتصف هذه الايضاحات الملونة بدقة ومهارة فائقتين ليس فقط التفاصيل الدقيقة للمباني بحالها التي كانت عليه آنذاك. بل ويصاحبها وصف لنمط الحياة الاجتماعية التي سادت من خلال الشخوص التي تضفي على البيئة العمرانية بعدا حيويا اضافيا، وفي الحقيقة فليست هي الوسيلة الوحيدة لقراءة الانماط الاجتماعية السائدة، بل هناك الروايات الادبية وقصص الرحالة التي لا تبين فقط النمط السلوكي والاعراف والتقاليد الموجودة والمتبعة حسب الاقليم الذي تجري فيه الاحداث. بل هناك ايضا نصيب من الوصف بالادب من نثر أو شعر مما تتضح معه بعض من معالم العمران والبيئة المبنية.
ومن ابرز وأهم المصادر في نقل صور من الحياة الاجتماعية في تلك الفترة في العالم الاسلامي من أواسط آسيا وتركيا هي مقامات الحريري ومن خلال منمنماتها الخمسين التي تصف كل منها واقعة معينة ضمن مكان وشخوص وأحداث مختلفة، كما يعد البعض الشعر ايضا كأحد مصادر الأدب في نقل صور من البيئتين الاجتماعية والعمرانية بين طياته، بحيث يعمد بعض الباحثين لدراسته مليا واستخلاص الصورمن خلال الكلمات المجردة، وكذلك من خلال الروايات الادبية التي تهتم غالبا في تهيئة القارئ قبل الدخول في تفاصيل القصة بالتعريف بالمكان وتقديم الشخوص.
وفي معظم الاحيان وفي حالة الروايات الكلاسيكية الاصلية يسهب الاديب لبضعة صفحات في تقديم تفاصيل المكان بل وربط المكان والقصة ببعض الاحداث التاريخية.
ومن هذه القصص على سبيل المثال لا الحصر روايات نجيب محفوظ مثل زقاق المدق او بين القصرين، أو روايات أمين معلوف مثل Leo the African أو غيرها، فبينما تجري أحداث روايات محفوظ في حواري وأزقة القاهرة القديمة، يروي معلوف قصته في مدن شمال أفريقيا العربية وبالذات بالمغرب العربي.
وفي مقابل ذلك نجد نفس الحال في الأدب الغربي، فمثلا فكتور هوجو يروي روايته العالمية أحدب نوتردام في كاثدرائية باريس الشهيرة التي تطل على نهر السين، وبالمثل نجد ان تشارلز ديكنز قد رسم ببراعة صورا من الحياة الاجتماعية وأنماط الحياة اليومية السائدة بل وحتى الأزياء الدارجة في فترة العصور الوسطى بمدينة لندن، لدرجة ان روايته -التي كانت تنشر على شكل حلقات مسلسلة بالجريدة اليومية وينتظرها كل صباح الملايين من سكان لندن للاثارة والبراعة في الوصف بها- من أهم المصادر التوثيقية لمدينة لندن آنذاك، فمثلا رواية Oliver Twist تروي قصة الصبي اليتيم الذي انتقل للعيش بمدينة لندن، وانضمامه - رغما عنه- لعصابة من اللصوص التي يتزعمها اليهودي الجشع، لا تقص هذه الرواية أنماط وحيل اللصوص المنتشرة آنذاك بل وتصف الأزقة بلندن القديمة، وتصل القصة ذروتها لتصف المنطقة الواقعة قرب جسر لندن الشهير.
والجدير بالذكر ان هؤلاء الكتاب والأدباء لا يقصون هذه القصص من وحي خيالهم في معظم الأحيان، انما تتجسد لهم الشخوص والأمكنة وأحيانا الزمان الذي تجري به القصة من خلال وقائع حقيقية.
فمثلا تشارلز ديكنز لم يقص روايتيه Oliver Twist و David Copperfield إلا بعد عمله هو نفسه كصبي في مكتب بلندن للعديد من السنوات، وبذلك كانت هاتان القصتان بالذات -وهما من أبرز قصصه - من أشهر القصص التي تربط المكان بالشخصيات التي ابتكرها، وعودا الى أدبنا وتاريخنا العربي، نجد ان في رحلات ابن بطوطة ومقدمة ابن خلدون، وكذلك المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار للمقريزي من أهم المصادر في هذا المجال، وتكمن أهميتها كما ذكرنا لغياب وسائل التصوير في ذلك الوقت.
لذا كان لا بد للكلمات من وصف الموجود وتوثيقه، وفي معظم الأحيان يمكن استخلاص العديد من النقاط وليس فقط التاريخ المقصود والمعني بها مباشرة، فقد وصف ابن خلدون وصفا مباشرا طبائع العرب ومبدأ العصبية ونشوء المجتمع وأحوال العمران في عصره، وكذلك أرخ المقريزي وقائع حصلت بدلالة المباني، فقد ذكر أحوال الناس في مدينة القاهرة، ومثلا ذكر تهدم المئذنة لجامع السلطان حسن أكثر من مرة، ووصف القبة التي كانت موجودة والتي يعتقد انها ليست ذاتها الموجودة اليوم.
وفي الحقيقة فهذه النقطة جديرة بالاهتمام، إذ ان مصادر الأدب أو التوثيق المختلفة قد تصف أو تروي تفاصيل تخالف ما هو موجود اليوم، -وهو من الأمور التي ينبغي الوقوف عندها بالتحليل والدراسة للباحثين المهتمين -. إذ ان التحوير قد يكون دلالة على تغير في المعني أو الوظيفة عن الأصل الذي تحور، ومثال ذلك الصورة المرفقة التي تبين مدخل المسجد المعروف بالقاهرة بالسلطان حسن، وملاحظ ان هناك فقط درجا واحدا مؤديا للمدخل الضخم في الصورة، فيما يعرف من يزور هذا المسجد اليوم وجود درجين متقابلين، وقد لا يبدو هذا التغير مهما للوهلة الاولى،
لكن الدراسة الجادة لمعنى هذا التحوير قد أظهرت ان وجود درج واحد كان ينبع من احساس المعماري بضرورة استكشاف المدخل من زاويتين مختلفتين للزائر، تماما كمن يزور هضبة الاكروبوليس بأثينا والتي تتبع نفس النظام حيث يلتف الزائر حول الهضبة قبل الدخول للمبنى الماثل فوقها (البارثينون)، ولذلك فإن التحوير الذي تم لم يكن فقط مجرد اضافة درج للمدخل بل احدث تغيرا على الفكرة التي قصدت من قبل المعماري في القديم.
واجمالا تشكل هذه الوثائق والرسومات وكتب الأدب العربي والشعر تربة خصبة للدراسة والتحليل واستنتاج الحقائق بين السطور، ويمكن ان تكون محور أبحاث جادة متخصصة تعنى بشؤون العمران أو علم الاجتماع أو الازياء التقليدية اوالعلاقات بينها.
ويكفي بالبحث المتخصص الذي يدرس مليا المنمنمات أو مقامات الحريري أو الحقائق التي اثبتها ابن خلدون في مقدمته ان يقدم نظرة واسعة أو متخصصة لمفهوم البيئة الحضرية بالشكل الذي كانت عليه، ويا حبذا لو توجهت أنظار الدارسين في العالم العربي في هذا الاتجاه بالعكوف على تراثهم الأدبي والحضاري الزاخر.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved